02-10-2014

معالم خطة محاربة الإرهاب في بيان هيئة كبار العلماء

لم تتساهل هيئة كبار العلماء- يوماً-في بيان الحكم، والموقف الشرعي من الإرهاب. فهي خير من يدرك، ويقدر أهمية الأمن، والاستقرار للدولة، والمجتمع،- إضافة- إلى جهودها في نشر الفكر المعتدل، والوعي بمبادئ الإسلام التي خطها، ورسمها لأهله، وتحصين الشباب ضد الانغلاق. ولطالما أكد العلماء الغايات السامية للإسلام، وتصحيح صورته، باعتبار أن الإرهاب من جرائم العصر، لا دين له، ولا وطن، والإسلام برئ منه فكرا، وسلوكا.- كل ذلك- وفق برامج شاملة، وأسس علمية منهجية، من خلال الكشف على أسبابه، وسبر دوافعه، ومعالجته؛ ليؤكد هذا الموقف اتفاقه تماما مع موقف الدولة، الرافض للإرهاب، والتطرف، والعنف، بكافة أشكاله، وصوره.

مناسبة ما تقدم، هو : الإشارة إلى القرار- الأخير- الصادر من هيئة كبار العلماء، بشأن تجريم، وتمويل الإرهاب، والذي اتسم بالصراحة، والوضوح في بيان الحكم الشرعي من تمويل الإرهاب بجميع مقاصده؛ مما يستوجب تحية إكبار لهذه الكوكبة من العلماء؛ لدحضهم تلك الافتراءات، والشبهات، والرد عليها وفقا للمنهج القويم في كتاب الله، وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-.

مقدمة!

عندما يؤكد بيان هيئة كبار العلماء على أن الإرهاب يعدّ جريمة نكراء، وظلماً، وعدوانا تأباه الشريعة الإسلامية، والفطرة -بصوره وأشكاله كافة-، وأن مرتكبه مستحق للعقوبات الزاجرة الرادعة، عملاً بنصوص الشريعة الإسلامية، ومقتضيات حفظ سلطانها، وتحريم الخروج على ولي الأمر، -إضافة- إلى الإشارة نحو أعمال بعض الجماعات، كتنظيم داعش، والقاعدة، -وما يسمى- بعصائب أهل الحق، وحزب الله، والحوثيين، بأنها جرائم إرهاب، ومحرمة، -ومثلها- الأعمال الصادرة عن جرائم الإرهاب، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، أو الأعمال المجرمة التي تمارسها بعض الفرق، والجماعات المنتسبة إلى الإسلام، بأنها محرمة، ومجرمة؛ لما فيها من هتك للحرمات المعلومة بالضرورة، فهي رسالة واضحة على أن هذه الفئة من المجتمع، أمامها مسؤولية كبيرة في حفظ المجتمع من الفتن، وذلك بما أُنيط بهم شرعا، وعقلا.

مسؤولية المجتمع الدولي!

استعرض بيان هيئة كبار العلماء كلمة خادم الحرمين الشريفين -الملك- عبدالله بن عبدالعزيز، والموجهة إلى الأمة العربية، والإسلامية، والمجتمع الدولي، وما تضمنته من تحذير، وإنذار تجاه ما يواجه العالم أجمع من خطر الإرهاب، الذي اتخذ ذريعة؛ لتشويه صورة الإسلام بنقائه، وصفائه، وإنسانيته، وما نبه عليه -حفظه الله- من أن للإرهاب أشكالاً مختلفة، -سواء- ما كان منها من جماعات، أو منظمات، أو دول، وهي الأخطر بإمكاناتها، ونواياها، ومكائدها. وقد أخذ -أيده الله- على المجتمع الدولي صمته، وحمَّله مسؤوليته تجاه ما حدث لأهل فلسطين من نكاية العدو، وغطرسته، محذراً من نتائج ذلك، وأن من يصمتون عن جرائم الإرهاب، سيكونون أول ضحاياه في المستقبل القريب.

من جانب آخر، فإن تحذير خادم الحرمين الشريفين، من: «مغبة المغامرات، التي ترتكبها بعض الدول، وتدخلها في الشؤون الداخلية للآخرين؛ مما يزيد حدة التوتر، وعدم الاستقرار في المنطقة»، هي رسالة واضحة لكل من يعمل على بث الإرهاب في المنطقة، وتمزيق أوصال الأمة، وتدمير أساس قوتها، كونه الهدف الذي يعمل على تحقيقه أعداء الأمة، حتى لو انتهج فاعلوه سياسة العنف في معالجة المشكلات، والقضايا المجتمعية؛ وحتى لو وصل إلى مستوى الإرهاب المنظم، الذي استهدف تخريب دول، وتهديد استقرارها.

وإذا أريد للتاريخ أن يشهد، وللواقعات أن تستجلي على الغير، فإن ما يحدث في أرض سوريا -اليوم-، والعراق، ولبنان، واليمن، ينبئك عن عمق الألم، وحجم المأساة، حين تحولت المجتمعات إلى ساحات غير محصنة أمام الحروب الطائفية، والأهلية، وسفك الدماء، وثقافة العنف، والترويج للتدخل الإقليمي في الشؤون الداخلية للدول، بعد أن تحولت دراماتيكية الأحداث في طبيعتها المنحرفة إلى لغة الدماء، -من خلال- العنف، والمؤامرات القذرة؛ لتفرز المسلمين إلى أقليات حسب المذهب، أو الفكر، أو العرق، أو اللون؛ من أجل أن يلجأ عرّابوها -مع الأسف- إلى بث ثقافة الكراهية، والعنصرية، وإلى تأجيج النزاعات، والفتن الطائفية؛ حتى لو كان السبيل إلى تحقيق ذلك : سفك الدماء، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتدمير المقومات السلمية للوحدة الاجتماعية بين المسلمين.

إن الطائفية بكل صورها، لا تنطلق إلا من أحكام متسرعة، أو نظرة مغالية، وما يحدث اليوم على أرض الواقع، يؤكد تدخل قوى خارجية، واللعب بورقة الطائفية المقيتة، كونه نوعا من الاصطفاف الطائفي، وهي تقوم على إستراتيجية الأرض المحروقة؛ ليصبح هذا الخيار فاسدا، لا يصح البناء عليه، حيث انكشفت طبيعة المؤامرات الحقيقية، والتي انطلقت من مبدأ ما سبق ذكره.

كانت، ولا زالت مغبة المغامرات التي ترتكبها بعض الدول، -إضافة- إلى تدخلها في الشؤون الداخلية لدول الآخرين ثغرة للتسلل، أجّجت من خلالها نار الفتن بين الطوائف الإسلامية، وأراقت فيها الدماء على الهوية المذهبية، فأدى التعصب المذهبي إلى زرع الخلاف، والشقاق بين أبناء الأمة، وتفتيت وحدتها، وتقسيمها إلى أمم متخاصمة، مع أن الدعوة إلى هكذا عداوات، سببها في الأصل سياسي، لا علاقة له بدين، أو فقه، وذلك عندما حاولت بعض الأطراف في الخارج، والداخل استثماره؛ لتحقيق الفرقة، وإشعال فتيل النزاع.

الفرق بين الجهاد والإرهاب!

كان البيان واضحا في أن الإرهاب يعرض مصالح الأمة لأعظم الأخطار، ومن زعم أنه من الجهاد، فهو جاهل، ضال، فليس من الجهاد في سبيل الله في شيء، والإسلام بريء من هذا الفكر الضال المنحرف، بما جرَّه على بعض البلدان من سفك للدماء، وتفجير للمساكن، والمركبات، والمرافق العامة، والخاصة، وهو محض إفساد، وإجرام تأباه الشريعة، والفطرة، كما في عموم قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

ولأن الأمة بليت في هذا العصر بأناس ينطلقون من مبدأ الوصاية على الدين، عندما تفرقت بأصحابها الأهواء، فتصدروا قبل النضج في العلم، والعقل، وخاضوا في مسائل كبار قد تعد من الأصول، دون جمع بين النصوص، والتي تحتاج إلى رد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والفروع إلى الأصول، فضلوا، وأضلوا، فقد حدثني أحدهم قائلاً: إن الجهاد -اليوم- أصبح «فرض عين» على كل مسلم، قادر على الجهاد. وما دام الأمر كذلك، فلا استئذان -حينئذ- فيه لأحد؛ انطلاقا من القاعدة الشرعية: «لا استئذان في فروض الأعيان»، دون أن يفرق بين أنواع الجهاد المعروفة بضوابطه، وقيوده، وأهدافه، وغاياته، ومن ذلك: أن الجهاد لا يكون إلا تحت راية ينظمها ولي الأمر، ويرتب أحكامها الشرعية.

ثم إنه لم يُعر ف عن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ممن كانوا تحت إمرته، أنه جاهد بدون إذنه، أوعلمه. وهذا المنهج هو مقتضى كمال العلم الشرعي، ومنتهى العقل الراجح، والحكمة في بيان الأمور. -ولذا- فقد جاء النص القرآني في التحريض على الجهاد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي هو ولي الأمر في ذلك الزمان، فقال -جلّ في علاه-: «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال»، ووجه الدلالة من الآية، أن الله أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بحثّ أتباعه من المؤمنين على القتال، ولم يأمر المؤمنيني بحثّ بعضهم بعضا، فتبين أن التحريض على القتال من خصائص ولي الأمر، وليس من خصائص غيره. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما يميز الجهاد في سبيل الله وضوح هدفه، ووسائله، والتزامه بأحكام الشرع؛ من أجل حفظ اجتماع الناس، وكلمتهم، وسوادهم الأعظم، وعدم تفرق بيضتهم. فالجهاد لا يكون مرجع إقامته إلى الهوى، أو العقل، بل مرجعه يكون إلى الحجة، والدليل من الكتاب، وصحيح السنة، وذلك بفهم العلماء الراسخين في العلم.

إن موافقة الحق لا يكون إلا بالاستقراء التام لنصوص الشريعة، ومعرفة الجمع بين النصوص، وهذا الأمر لا يتم إلا بأكابر العلماء الربانيين؛ لمناقشة مفهوم حكم الجهاد، وصوره، وأسبابه، وتداعياته في عصرنا الحاضر. وكيفية التعامل معه في ظل الأوضاع الدولية الحديثة، دون أن يتعارض ذلك مع نص صريح، أو مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كل ذلك؛ من أجل صد الهجمات الشرسة على مفهوم الجهاد في الإسلام، أو وصمه بالإرهاب، والعنف، والتطرف. والعمل على قطع الطريق ضد خصومه بالهيمنة، والسيطرة على بلاد المسلمين. وعليه، فإنني أقترح على معالي وزير الشؤون الإسلامية، والأوقاف، والدعوة، والإرشاد -الشيخ- صالح آل الشيخ، دعوة كوكبة من علماء المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها إلى مؤتمر علمي؛ من أجل الوصول إلى أحكام فقهية معاصرة حول موضوع الجهاد، تستحق الخروج إلى حيز الوجود.

لا انتقائية في تحديد قوائم المنظمات الإرهابية!

كتبت مرة، أن منهج العلماء الرشيد يكمن في التوفيق بين الفقه، وفهم الواقع؛ من أجل أن تُبنى عليه الأحكام الصحيحة؛ مراعاة للمصلحة، أو مجافاة للمفسدة، باعتباره يندرج في وعاء تحقيق المناط، -سواء- أطلقنا عليه لفظ: «السياسة الشرعية»، أو «الاستصلاح»، أو «الاستحسان». ففقه الواقع مع مراعاة واقع متقلب، ومتوقع مترقب، ناشئ عن تحقيق المناط، الدائر مع المصالح، والمفاسد، شريطة ألا يخل بمصلحة شرعية معتبرة، أو يؤدي إلى مفسدة أعظم مطلوبة الدرء شرعا. -وعندئذ- لا يحق للعالم الشرعي، أن يصدر فتوى مجردة عن واقعه الذي يعيشه؛ لتحقيق ما استطاع من متطلبات، بل والعمل على حفظ الإمكانات، والمقدرات، والكليات.

أشار البيان إلى أن أعمال الإرهاب الصادرة عن بعض الجماعات، مثل : داعش، والقاعدة، وما يسمى بعصائب أهل الحق، وحزب الله، والحوثيين، أو جرائم الإرهاب التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، أو الأعمال المجرمة التي تمارسها بعض الفرق، والجماعات المنتسبة إلى الإسلام، كلها محرمة، ومجرمة؛ لما فيها من هتك للحرمات المعلومة بالضرورة، هتك لحرمة النفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن، والاستقرار، وحياة الناس -الآمنين المطمئنين- في مساكنهم، ومعايشهم، وهتك للمصالح العامة، التي لا غنى للناس في حياتهم عنها.

عند التدقيق، فإن فكرة تأسيس الدولة الإسلامية في العراق، والشام، والتي تعتبر امتدادا لتنظيم القاعدة في العراق، تعيد إحياء فكرة تشكيل إمارات إسلامية، ولو بشكل رمزي. وإقامة دولة الخلافة الإسلامية في المناطق التي تتم السيطرة عليها، وتحقيق الشعار الذي يستخدمه عناصره على مواقع التواصل الإلكتروني، وهو: «من إقليم ديالى في العراق إلى بيروت»، ضمن إيقاع التعبير السياسي المفروض من أجندات الخارج، وذلك عندما تحول عن تنظيم القاعدة الأصل تنظيمات متعددة؛ لتحصل القاعدة على قواعد خلفية في عدد من دول المنطقة، وببدائل أسوأ، تسوقها في مزيج بائس من انتهازية سياسية، ونزعات أيديولوجية ضيقة، كان أبرزها -مع الأسف-، ظهور ما يسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» -منذ عام 2006 م-، بمشروعه الخطير، ونمطه الاستبدادي العنيف، والمتربع على كل المساحات التي يتواجد فيها. ولعل مكمن الخطر فيما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق، والشام، تبنيه لفكرة العنف، وإطلاق عمليات إرهابية، شكلت ظهورها مشاكل عميقة في المستقبل القريب؛ ليزيد الصورة قتامة، والمشهد بؤسا؛ وليصبح أكثر تعقيدا بتأسيس خلافة عابرة للحدود، تؤمن بالأيديولوجية العالمية لتنظيم القاعدة. الأمر الذي سيزيد من الارتباك العام، والتعقيد في المشهد العام، بعد أن يتم اتخاذ تلك التنظيمات فزاعة؛ لإطالة أمد الأزمات في المنطقة، وإبادة الشعوب؛ ولتكون وجها آخر للإرهاب.

أيضا، فإن المنطقة عانت كثيراً -ولا تزال- من أيديولوجية حزب الله، وأنشطته الإرهابية، -خصوصا- عندما تورط عسكريا، وبشكل مباشر في أحداث الثورة السورية، وارتكابه المجازر بحق المدنيين الأبرياء بحسب مجريات الأحداث، والتي أكدت على العلاقة الوثيقة بين إيران، وحزب الله، والقائمة على تبني المذهب الجعفري الإثني عشري -منهجاً ونظاماً-، تلك العلاقة التي جرت على لبنان ويلات، زادت من نار الحرب المستعرة في أرض غير مستقرة في الأساس، فأبقت المنطقة في حالة من الضعف المستمر.

من البدايات، كان ارتباط حزب الله بالمشروع الإيراني واضحاً، فإيران هي الشريان لحزب الله، و لعب -أمينها- حسن نصر الله دور صلة الوصل بين إيران، وقواتها في لبنان. فكانت إيران الأم الرؤوم، والمرعى الخصيب، والمحضن الدافئ لحزب الله، فنمت تلك العلاقة بسرعة وثيقة، وتراكمت إيجابياتها منذ اللحظة الأولى، وذلك لأسباب عدة، من أهمها: إيمان كل من إيران، وحزب الله بنظرية ولاية الفقيه، وأن الإمام الخميني، هو القائد الولي الذي يترجمها في عصرنا الحديث؛ مما أدى إلى الالتقاء في إطار القيادة العالمية الشرعية الواحدة، -إضافة- إلى العمل على تصدير الثورة الإيرانية إلى العالم الإسلامي؛ من أجل إقامة دول الهلال الشيعي، حسب ما يخططون، ويسعون له.

ومثله، فقد ظهرت الحركة الحوثية المشبوهة في غفلة التجاذبات السياسية في اليمن، وذلك في ظل الفراغ السياسي، والعسكري، واستطاعت أن تخلق كيانا عسكريا قويا؛ ليمثل امتدادا شيعيا لمشروع الثورة الإيرانية. وحول هذا المعنى يقول -الدكتور- محمد المهدي في مقدمة كتاب: «نظرة الإمامية الإثني عشرية إلى الزيدية»، لمؤلفه -الباحث- محمد الخضر: «ومما لا خلاف فيه، أن الحوثية ذات منزع جارودي، وهي إحدى فرق الزيدية، التي تقترب فكرياً مع الاثني عشرية، -لاسيما- في سب الأصحاب، والقول بأحقية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للخلافة، وتقديمه على من سواه. ومن خلال الإطلاع على الخطاب الحوثي السياسي، تجد انبهاراً حوثياً بثقافة الخميني، وثقافة الفرس، وأولاد بدر الدين -جلهم- ابتعثوا إلى إيران، وكتبه -جلها- مطبوع في إيران.. فهم يرضعون من حليبها، وينفذون مشاريعها، ويعدون أنفسهم جزءاً من كيانها الدولي».

إذن، فالسياسة الصفوية الإيرانية تقوم على عقيدة مذهبية، وطائفية، وتتحرك بوحي من أحقاد تاريخية، تستهدف اجتثاث الوجود -العربي السني-. وما يفعله الحوثيون -اليوم-، هو استكمال لاحتلال الأجزاء المهمة من الحزام الشيعي في جنوب الجزيرة العربية، والعمل على تمكين المخطط الإيراني من تمتين الإثني عشري هناك.

في المقابل، ومنذ أن وعينا على هذه الدنيا، ونحن نسمع عن جرائم إسرائيل، واقترانها بأقذر العمليات- العسكرية الاستعمارية- . فليس من بيننا من يجهل هذه الوقائع، -كونه- تاريخا حلّ علينا، لا بد أن نعيه؛ كي تظل الحقيقة واضحة للعالم، وحتى لا ننسى تجاوز إسرائيل، ودمويتها.- وعليه- فإن تغير معادلة الصراع في مرحلتها الراهنة، تستوجب الوقوف مع القضية الفلسطينية، والحقوق المشروعة المستلبة، وذلك وفق الأعراف الإنسانية، والدينية، والمواثيق الدولية؛ لنيل حريته، وتقرير مصيره، وإنشاء دولته المستقلة على كامل التراب الفلسطيني المحتل.

إن الجهل بفقه الواقع، أحد أسباب تأخر الأمة، وذلك باتخاذ القرارات الخاطئة المبنية على تصورات غير سليمة، أفقدتنا الانسجام الضروري بين الضمير الديني، والأخلاقي، والواقع الإنساني. ولذا لا غرابة، ونحن نعيش أحداثا جسيمة في المنطقة، ليست باعتبار تأثيرها علينا -فقط-، بل على العالم أجمع، أن نشهد من يضع الأحكام الشرعية، والفتاوى الجاهزة في غير موضعها، أو أن يطلقها دون تقييد، وهذا ما أفضى -مع الأسف- إلى فوات مصالح مرجوة، والولوج في مفاسد محققة، بسبب الوقوع في دائرة الجدلية بين الواقع، والمتوقع- بتقلباته وغلباته-، وبين الدليل الشرعي بشقيه -الكلي والجزئي-.

التصدي للفتاوى المضللة!

من المؤسف القول : إن نماذج لبعض الدعاة، ممن حرضوا شبابنا على الزج بأنفسهم في أتون صراعات ملتهبة، -وهم مع هذا- ينسون أنفسهم، ولا يرسلون أبناءهم، دون الالتفات إلى الشروط، والضوابط التي رسمتها نصوص الشريعة، ففارقوا جماعة المسلمين بمصاحبة الغوغاء، ومجاراة أهل الأهواء تحت ذرائع وهمية، ومتناقضة مع الواقع، والمنطق، والعقل، كان أمرا واقعا. فاختلطت الأوراق في هكذا قضايا، وانتشرت كثير من الفتاوى الغير مؤصلة تأصيلا شرعيا؛ لجعل هؤلاء الشباب أدوات في أيد مجهولة، وحطب لمحرقة حرب مجهولة العواقب، ودون تقدير لمآلاتها، ونتائجها، بعد أن اختطفوا مفهوم الجهاد؛ ليحولوه إلى مشروع دموي. وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن ملف الجهاد، لا بد أن يكون بيد العلماء -الراسخين في العلم-، وبعيدا عن أولئك المحرضين، الداعيين إلى الجهاد في دول تشهد حروبا طاحنة، واضطرابات ساخنة.؛ حفاظا على بقاء المجتمعات، واستقرارها.

إن عنصر المفاجأة في هذه الإشكالية، تكمن في محدودية الثقافة لدى هؤلاء الشباب، -إضافة- إلى ضعف الوعي الديني، والسياسي. وهو في واقع الأمر شكّل أزمة؛ لعدم وجود البديل في واقع أمورهم الحياتية. ومن تأمل حال الشباب السعودي، عندما ذهب إلى أماكن الصراع، وكيف تم إلحاق الأذى بهم، سيدرك تماما أن مستوى التفكير الذي ساد في إطار اعتقاد هؤلاء الشباب، كان ضيقا. مع أن شعيرة الجهاد في سبيل الله، تُوكل في المقام الأول إلى علماء البلد المعني، الذي حلت به الكارثة، بعيدا عن فرض تأويلات مغرضة، تصيب مضامين النصوص الشرعية من خلال التفسيرات الخاطئة.

إن قراءة جملة المصالح، والمفاسد المترتبة على هكذا خروج، تعود إلى الأمة -كلها-، ولا تختص بمن يباشر الجهاد -فقط-. بل إن الأعمال الاجتهادية الفردية، يترتب عليها من الانفلات، وعدم القدرة على ضبط الأمور، ما لا يترتب على الأعمال الاجتهادية، والتي يختص بها ولي الأمر، ومن معه من أهل الحل، والعقد، فيكون الفعل في الشرع من ناحية التكييف الفقهي محظورا، مراعاة لجلب المصالح للأمة، ودفع المفاسد -كلها-.

الجرأة على الدين والعلماء!

لا أحد يستطيع أن ينكر أننا نعيش حراكا علميا، وفكريا على مختلف الأصعدة. هذا الحراك أفرز حزمة من الفتاوى الشاذة الغير منضبطة، من مفتين لم يدركوا واقع الناس، ولا يملكون أي شرط من شروط الفتوى، فتصدوا على مقام العلم، والفتوى عبر وسائل الإعلام، -وخصوصا- في الفضائيات المنتشرة، فانتشرت فتاواهم في الآفاق، كانتشار النار في الهشيم. وأصبح مسلسل الفتاوى الشاذة المستند إلى أدلة ضعيفة، أو منسوخة مستمرا، بل أصبحت الفتاوى سوقا رائجا لكل من هب ودب، دخل فيه من يحسن، ومن لا يحسن، فشوهت صورة الإسلام، وأثارت جدلا كثيرا، وأظهرت الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، مع أنها ليست من أولويات الناس في معاشهم، أو معادهم.

إن إبراز دور مؤسسات الإفتاء، والمجامع الفقهية، حتى تؤدي دورها في المجتمع، وتنظر في مختلف القضايا، والتأكيد على آليات مراحل الإفتاء؛ لدراسة المسائل بمنهجية علمية، وإصدار ميثاق للإفتاء، تتصدى بالنقد لهذا النوع من الفتاوى، وتكبح جماح شهية البعض، دون النظر إلى الأصول الشرعية، والمعتمدة على الأدلة الشرعية، خطوة في الاتجاه الصحيح. فالفتوى هي مهمة العلماء -فقط-. ولا يرتقي هذا المنبر إلا من كان متخصصا بالشرع، عالما بنصوص الكتاب، والسنة، ودلالات اللغة العربية، ومطلعا على إجماع الأمة. مجتنبا الغرائب من الأقوال، والشذوذات من الفتاوى، ومالا يحسن الناس فهمه. فالقول يوصف بالشذوذ: إذا كان على خلاف النصوص الصحيحة الصريحة، وإذا كان قد سبق بالإجماع، وإذا انفرد به صاحبه، ولم يتابعه عليه أحد، وضعف مأخذه فيه، وإذا لم يجر عليه عمل العلماء، وهدروه، وإذا كان مخالفاً لأصول الشريعة، وقواعدها العامة. وقد يؤدي الشذوذ عن فتاوى علماء الأمة إلى استحداث فتاوى خاطئة في دين الله -تعالى-، تؤدي بالآخذين بها إلى الجرأة على اقتحام حمى الله «ألا وأن حمى الله محارمه».

تعقب المحرضين إلى بؤر الجهاد!

إن الدعوة إلى الجهاد بدون إذن ولي الأمر، أوقع الأغمار في حبائل المحنة. وعندما يقرر علماء الأمة المعتبرون، أن استئذان ولي الأمر شرط، فإن الشرط يلزم من عدمه العدم، ويفسد- حينئذ- الجهاد. ومن يفتي بخلاف ذلك، فقد جمع إلى جهله المتناقضات التي لا تجتمع، ولا ترتفع، والمتضادات التي ترتفع، ولا تجتمع. وهذا المعنى هو الذي حذر منه عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء -الدكتور- صالح الفوزان خلال محاضرة ألقاها -قبل أيام- في جامعة -الإمام- محمد بن سعود الإسلامية، بأن: «ولي أمر المسلمين له الصلاحيات في إقامة الجهاد في سبيل الله، والغزو معه، وتحت رايته»، معتبرا أن: «التفرق، والاختلاف، هما شر على المسلمين، كما يحصل- الآن- من الثورات التي حصلت، وبرزت نتائجها».

ثم إن حماية النظام العام للدولة، لا يكون إلا بدرء الفتنة عنها، ومنع البغي الذي قد يحدث داخلها، عندما يهدد أمنها، وكيانها، ونظامها؛ ولأن الأحداث قد تتكشف عن أمور غير متوقعة، فإن الإيجابية تستدعي وحدة الرأي، والنظر، ضمن منهج بناء متكامل؛ لتتوازى فيه كل الجهود المخلصة، وتتوافق فيه كل الاجتهادات الصائبة؛ من أجل درأ المفاسد، وجلب المصالح في حدود الإمكان، والطاقات البشرية. وهذا المعنى، هو الذي ختم به معاليه حديثه، بأن: «تعقيدات الحياة، وتداخلها، وتشابكها، تتطلب أن يكون هناك عملاً مؤسسياً، وأن يكون القرار لولي الأمر، وليس لغيره، كون ولي الأمر لديه مصادر المعلومات، والاستخبارات، والتقييم السياسي، والاقتصادي -الداخلي والخارجي-، وهو وحده يستطيع تقدير مصالح الأمة».

خاتمة!

بقي أن يقال: إن القدرة الممنوحة شرعا لولي الأمر، ستمكنه من القيام بالحفاظ على الدين، ورعاية مصالح العباد وفق مقصود الشارع، ومبادئه، وقواعده. ويتفرع عن هذين الواجبين الكثير من الواجبات الفرعية، وهو ما يمليه مصطلح «السياسة الشرعية»، والتي تُعنى بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتقليل المفاسد، ودرئها، وتعطيلها.

drsasq@gmail.com

باحث في السياسة الشرعية

مقالات أخرى للكاتب