06-10-2014

على هامش الحديث عن دعوة الشيخ محمد (1)

كنت في حديثي قبل أسبوعين عن هذه الدعوة وازدياد الهجمات عليها قد ذكرت أن ممن تحدثوا عنها وعن صاحبها من الذين يحسبون من التنويريين أحمد أمين وطه حسين. وقد جاء حديث أحمد أمين في كتابه عن زعماء الإصلاح،

وقد قال بعد أن أشار باختصار شديد «إن أهمَّ مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله»، وتَميَّز الإسلام بها عما عداه، ودعا إليها محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، أصدق دعوة وأحرَّها؛ فلا أصنام ولا أوثان، ولا عبادة آباء وأجداد، ولا أحبار ولا نحو ذلك». ثم قال: «إذا كان ذلك هو لُبَّ عقيدة الإسلام فما بال العالم الإسلامي يعدل عن التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيراً من خلقه؟ فهؤلاء الأولياء يُحَج إليهم، وتُقدَّم لهم النذور، ويُعتَقد أنهم قادرون على النفع والضر. وهذه الأضرحة لا عداد لها تُقام في جميع أقطاره يَشدُّ الناس إليها رحالهم، ويَتمسَّحون بها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم». ثم قال أحمد أمين: «إن تلك الأمور تَصدُّ الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مُحرِّفة، وتُجرِّدها من فكر التوحيد، وتفقدها التسامي.

والأساس الآخر المتصل بالتوحيد، والذي كان يفكر فيه ابن عبد الوهاب، هو أن الله وحده مُشرِّع العقائد، وهو وحده الذي يُحلِّل ويُحرِّم، فليس كلام أحد حجة في الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين. فالله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (21) سورة الشورى. فكلام المُتكلِّمين في العقائد، وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا؛ إنما إمامنا الكتاب والسنة. وكُلُّ مُستوفٍ أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد؛ بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام - على حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صَحَّ من السُّنة - ما يُؤدِّيه إليه اجتهاده. وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين؛ إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مُقلِّدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مُقلِّد مثلهم».

ثم قال أحمد أمين:

«كانت دعوة ابن عبد الوهاب حرباً على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأوَّل من عادات وتقاليد.. فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يُغنَّى فيها ويُرقَص. كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يُزَال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتِّصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك.. والكتب المملوءة بالتوسُّلات كتب ضارة؛ كدلائل الخيرات، وما في البُرْدة من مثل قوله:

يا أكرمَ الخلق ما لي من أَلوذُ به

سِواك عند حدوث الحادث العَمَمِ

ونحو ذلك أقوال فاسدة كاذبة، فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه».

ومما قاله أحمد أمين:

«ظهر المصلحون على توالي العصور يحاولون أن يَردُّوا الناس عن هذا (أي عن الأعمال المنافية لتوحيد الله) ويرجعوهم إلى توحيد الله وحده. وكلما دعا داعٍ إلى ذلك عُذِّب وأُهِين ورُمي بالكفر والإلحاد، كما فُعِل بابن تيمية.. وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب، فدعا مثل دعوته، فَرُمي بالكفر، وأخيراً جاء الشيخ محمد عبده، فدعا إلى العدول عن التوسُّل والشفَاعة، والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير بمثل هذه الدعوة، فَلقِي من أهل زمنه ما لم يَغِب عن أذهاننا بعد».

أمَّا طه حسين فقال:

«عاد ابن عبد الوهاب بعد رحلاته إلى موطنه نجد، فأقام مع أبيه حيناً يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه، وانقسم الناس فيه قسمين، فكان له الأنصار وكان له الخصوم. وكان المذهب (الذي دعا إليه) جديداً قديماً معاً. فالواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النَّقي المُطهَّر من كل شوائب الشرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصاً وحده مُلغياً لكل واسطة بين الله وبين الناس.

هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب».

ومما قاله طه حسين:

«ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب (يعني دعوة ابن عبد الوهاب) الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تُذكِّر بظهور الإسلام في الحجاز. فقد دعا صاحبه إليه بالِّلين أوَّل الأمر، فتبعه بعض الناس. ثم أظهر دعوته، فأصابه الاضطراب وتَعرَّض للخطر. ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدِّرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة. ولكن ابن عبد الوهاب لم يُرِد أن يشتغل بأمور الدنيا، فترك السياسة لابن سعود، واشتغل هو بالعلم والدين، واتَّخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته».

ومما قاله طه حسين أيضاً:

«الذي يعنينا من هذا المذهب (يعني دعوة الشيخ محمد) أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب. وقد كان هذا الأمر عظيماً خطيراً من نواحٍ مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية، ووضع أمامها مثلاً أعلى أحيته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم والِّلسان، وهو قد لفت المسلمين جميعاً وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب».

مقالات أخرى للكاتب