31-10-2014

التفكر

التفكر من خصائص ابن آدم الذي منحه الله العقل، لأن التفكر مع العقل متلازمان، ولذا فإنه يكثر في كتاب الله الكريم دعوة النفس البشرية، إلى التفكر في مخلوقات الله، وتدعو آيات كثيرة من محكم التنزيل إلى تنبيه الحواس والمدارك، لكي تتفتح الأبصار، ويتسع أفق البصائر، على عجائب ما أودع الله سبحانه في الكون من معجزات،

وما يكتنف ما حول النفس البشرية من مخلوقات صغيرة أو كبيرة من أسرار، هي من عظمة الخالق وقدره المبدع سبحانه.

والدعوة الكريمة للعقل البشري لكي يتبصر فيما حوله، وللخاصية التي منحها الله لبني آدم تكريماً وتفضيلاً لكي يعرفوا نعم الله عليهم، هي جزء من العبادة التي يجب عليهم أداؤها، وبعض من المهمة التي خلقوا من أجلها في الحياة الدنيا؛ لأن التفكر ساعة، تعدلُ عبادة سنة، وقد اهتمت آيات كثيرة من كتاب الله، بدعوة النفس البشرية للتفكر في مخلوقات الله العديدة، وآياته المديدة في السموات والأرض، ولئن كان ما فيها من عجائب وغرائب، وعبر وعظات، عند كثير من الناس شيئاً مألوفاً، بسبب عدم تدبُرهم، وحرصهم على أخذ الحكمة البالغة التي أوجدت من أجلها، والتبصر في قدرة الخالق على إنشائها ومنافعها، وإرادته سبحانه في تكوينها وإحكام عملها، فإن الدعوة موجهةٌ لأصحاب العقول النيّرة والبصائر المدركة لما تعنيه دلالة المعاني الكريمة في قوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ سورة الذاريات، الآيات 56 - 58.

ولما كان العقل، وحسن الإدراك من خصائص البشر، كرامة من الله خصهم بها، لذا كانت المخاطبة لهذا العقل تردُ كثيراً في التشريع الإسلامي، بدعوته للتمعن، وتوجيهه للتبصر، ولفت نظره إلى حسن التوجيه والرعاية، وعدم توظيفه في غير الأمور التعبدية النافعة، لأنه عليه مسؤولية، ووراء عمله غاية يجب عدم صرفها في غير الطريق الذي خلقت من أجله، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) سورة الإسراء. يقول ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى: وكما جعل الله سبحانه العينين مؤديتين للقلب ما يريانه، فيوصلانه إليه كما ترياه، جعلهما سبحانه مرآتين للقلب يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، البلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة، فيستدل بأحوال العين على أحوال القلب، وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة، وهي فراسة العين، وفراسة الأذن، وفراسة القلب.

فالعين مرآة للقلب، وطليعة ورسولٌ ومن عجيب أمرها أنها من ألطف الأعضاء، وأبعدها تأثراً بالحر والبرد، على أن الأذن على صلابتها وغلظها، لتتأثر بهما أكثر من تأثر العين على نظافتها، وليس ذلك بسبب الغطاء الذي عليها من الأجفان، فإنها لو كانت منفتحة لم تتأثر بذلك تأثر الأعضاء اللطيفة.

فالمسؤولية التي جعلها سبحانه للحواس، ترتبط بالموطن الإدراكي للإنسان، وهو موطن العقل، الذي تتعاون الحواس في الجسم البشري، لإيصال المعلومات إليه، ليُترجمها إلى عمل تعبدي ينفع، إن كان صاحبه ممتثلاً لأمر الله، مستجيباً للمسؤولية التي طرحت عليه، حريصاً على أداء الأمانة في هذه الوظيفة الوجدانية، أو إلى معصية ضارة، إن كان صاحب ذلك الفؤاد، غير ممتثل لأمر الله، متهاوناً في أداء المسؤولية المطروحة عليه، مقصراً في أداء الأمانة الملقاة على عقله نحو نفسه ومجتمعه ودينه، وفق ما تدل عليه النصوص الشرعية، التي خوطب بها.

ورحم الله القائل: ألا إن لله كتابين: كتاباً مخلوقاً وهو الكون، وما فيه من عجائب قدرة الله، وما دُعي إليه الإنسان من تأمر وتبصر، وكتاباً منزلاً وهو القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من تشريعات وعبر وعظات، ومخاطبة للعقول.

وهذا القول يرشدنا إلى طريق العلم، وما يوصّلنا إليه العقل الذي وهبه الله لنا معاشر البشر، فمن استجاب وأطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض وعصى، فأولئك هم الخاسرون.

والدعوة للنظر في ملكوت السموات والأرض، تربط الإنسان بالاهتمام بنفسه وتوجيهه إلى أن يتمعن في أقرب شيء إليه، ليجد العبر والعجائب، والأسرار والغرائب، يقول الشعراوي في أحد دروسه: إن الإنسان منا له حواسه، وله أجهزته المتعددة، باستقامتها وانسجامها، وأدائها مهمتها على الوجه السليم المعافى، لا نكاد نشعر بجهاز من أجهزتنا، فأنت ترى بعينك، ولكنك لا تشعر بوجودها دائماً، وتشم بأنفك، وتتكلم بلسانك، فإذا ما حصلت للعين آفة، ابتدأت تتنبه إلى وجود تلك النعمة، إذن فلا ينتبه الإنسان دائماً إلى وجود نعمة معتادة مألوفة لأن رتابتها جعلتها تفقده شعوره بها، فإذا ما اختل فيها، شيء ابتدأ ينتبه، إليها، ولذلك يظل الإنسان يأكل بأسنانه، يقضم بها، ويقطع ويطحن، وهو لا يلتفت إلى هذه الأسنان، فإذا ما جاء ضرس أو سن، وحصل له وجع، ابتدأ يشعر بوجود ذلك الضرس، وهذا الشعور يجعله كأنه ليس له جهاز في نفسه إلا ذلك الضرس، لذلك يقال: لا وجع إلا وجع الضرس، فما أشده وما أعنفه، وكذلك الذي توجعه عينه، وكذلك الذي توجعه أمعاؤه، حينما يحدث الوجع فيها، أي يخرجها عن عادتها الأليفة المألوفة، يشعر بخطرها، والإنسان في هذه الجزئيات حين يشعر بوجود هذه الأشياء، في نفسه قد تنبهه هذه الأحداث التي تعتبر الجارحة، أو أداء الحسن، إلى نعمة الله فيها.

إذا فوجود الأحداث في تلك النفس الإنسانية ضروري لينبه الإنسان إلى قيمة موجودات حواسه فيه، ولذلك تجد أقرب الناس إلى الله دائماً، هم الذين تأتي لهم الآفات، لأن كل واحد منهم يشعر دائماً بهذا العضو، وما أصابه من عطب، وبعد ذلك يتذكر نعمة الله فيه، وحين تعوزه الوسائل والعلاجات، لا يلجأ إلا إلى الله فيقول: يا رب.

والإنسان مدعو للتبصر في نفسه، ليصرف نعمة الله عليه، بما أودع سبحانه في جسمه من أسرار تبرز في كل موقف، وتتجلى مع كل نظرة تأملية، سواء كان ذلك في السراء، أو الضراء، في الانفعالات والأحاسيس، أو في التركيب الجسماني، والتأهيل العقلي.

ولا تكبر عظمة الله عند الإنسان، إلا عندما يشتغل عقله تدبراً، ووجدانه إحساساً، ذلك أن التأمل في مخلوقات الله، التي جاء ذكرها مع الدعوة للتفكر في كتاب الله، يوجد كل منها مشتملاً على وجوه كثيرة، من الدلالة على وجود الله تعالى، ووحدانيته، وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، وإثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبه على شرف علم الكلام، وفضل أهله.

ويقسم الرازي في تفسيره النعم إلى قسمين: نعم دنيوية، ونعم دينية، وما ذكره الله في سورة البقرة الآية (164) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ سورة البقرة الآية164، من أمور ثمانية دعي الإنسان للتفكر فيها، ما هي إلا نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها، واستدل على معرفة الصانع بها، صارت نعماً دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية، لا يكمل إلا عند سلامة الحواس، وصحة المزاج، فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية، لا يكمل إلا عند سلامة العقول، وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال سبحانه: لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

فسبحان من جعل العقل سمة للبشر، وأكرمهم به وفضلهم على سائر المخلوقات، وسبحانه من هيأ للعبد عبادة وجدانية بالتفكر في مخلوقات الله، ليدرك بذلك فضل الله عليه، ويشكره على نعمه الكثيرة ويعترف بآلائه عليه، فهو سبحانه المستحق للشكر والعبادة.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب