06-11-2014

شاعر القبيلة عندما يعود..

بالرغم من أن العالم دخل في عصور متقدمة جداً في الإنسانية وفنون الإدارة وآليات الحكم وحقوق الإنسان والتكنولوجيا، إلا أن شعوب الجزيرة العربية ما زالت متعلقة بثقافة القبيلة وتقاليدها وتراثها، ولا يزال العربي في الجزيرة يعتبرها أهم مكتسب لا يمكن التخلي عنه مهما كلف الأمر. ويظهر ذلك في بعض محاولات البعض الانتساب لقبيلة ما، وإن استدعى ذلك دفع الأموال الطائلة.

تتكون القبيلة العربية - مهما تغيرت عليها وتعاقبت الأزمنة - من مكونات أساسية، من أهمها شيخ القبيلة ورعيته وشعراؤها والإبل. ولعل المتغير الوحيد أنها لم تعد ترحل من مكان إلى آخر بحثاً عن الربيع والأراضي الخصبة والمياه؛ ويرجع ذلك للثروة النفطية، والالتزام بالانتماء لدولة ذات سيادة وحدود.

لم تختفِ ثقافة القبيلة في العصور الأولى من ظهور الإسلام، بل كانت الركن الرئيس في تاريخه السياسي؛ فقد حكمت قريش تاريخ المسلمين السياسي، وأصبح القرشي مرشحاً دائماً لكرسي الحكم في مختلف الأمصار العربية، وكانت القبيلة في تلك الأزمنة - وما زالت - بمنزلة القلعة العربية ضد سهام التطرف الديني، وقد يفسر ذلك استمرار تأثيراتها في المجتمع العربي في مختلف فتراتها، الذي كان مسرحاً سياسياً للتطرف الديني على مر العصور.

تعيش القبيلة العربية في الزمن الحاضر في أوج عصرها الذهبي؛ فالعمران والحضارة المادية وصلا إلى مراحل متقدمة في الخليج العربي والجزيرة العربية، وقد تم استثمار أموال طائلة في بناء أجمل المرابع على أحدث طراز، وأصبح التنافس على أشده في تطوير البوادي القديمة والتباهي بالمباني والفعاليات السياحية والتقنية والسياسية، ووصلت ملامح التطور العصري إلى الإعلام والاقتصاد والسياحة، لدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العرب؛ والفضل يعود دائماً إلى الموارد الطبيعية وعوائدها المجزية.

وبالرغم من تقادم العصور، لا يزال العربي يحتفظ بقدر كبير من الحنين إلى مرابع القبيلة، ويظهر هذا في حياته اليومية بصورة متكررة. فبالرغم من الطفرة المادية وارتفاع معدلات التعليم والازدهار غير المسبوق، المتمثل في استقدام أحدث التقنيات الحديثة في مختلف أوجه الحياة، يحنُّ شيخ القبيلة ورعيته إلى ماضيهم المعدم، ويشتاق في لحظات إلى شاعر القبيلة نصف المتعلم، وإلى الخيمة البدوية البسيطة، وإلى ذود الإبل ومواطنهم.

عندما يعود شيخ القبيلة، وهو في أوج الحضارة الحديثة، إلى مرابعه القديمة، ثم يستلقي على جانبه، ويمد رجليه على البساط الأثير، وهو ينصت إلى شاعر القبيلة وهو يسطر أجمل القوافي مدحاً في قبيلته وشيخها، وأقبحها في ذم القبيلة السياسية المجاورة بأقذع الشتائم والسباب، فاعلم أن الحاضر لم يفارق الماضي، وأن العودة إليه مسألة وقت فقط.

عندما يحضر الماضي ليحكم الحاضر في تلك الصورة النمطية، يصبح كل شيء قابلاً للزوال، فالاحتكام إلى ثقافة القبيلة لا يؤدي إلى المستقبل، ويجعل المكتسبات في مهب الريح؛ لأن النزاعات القبلية والشخصية دائماً ما تحكم سياسة القبيلة، وتجعل منها مساحة واسعة للانشقاق والدخول في الفوضى، ولو أنصتنا لما يحدث من ذلك في المجتمع العربي في الجزيرة لظهرت تلك النزعة الفوضوية في أوضح صورة ممكنة، ولأدركنا خطورة أن تحكم تلك التقاليد العصر الحديث.

لن أحتاج إلى سرد بعض الأمثلة؛ فبعض القصائد القبلية الهوى لا يزال صداها يملأ الأجواء الاجتماعية في الإعلام المعاصر، وينذر ببدء العودة مرة أخرى لعصور الانشقاق، وكأننا لم نفارق الأمس، وكأن الركب يستعد للرجوع إلى ماضي الغزو والاقتتال لأسباب تافهة كما حدثت في داحس والغبراء، وغيرها من المآسي التي حدثت بسبب كبرياء وجاهلية شيخ القبيلة، في حين تختفي أي جهود تثقيفية للخروج من دائرة الانغلاق حول تقاليد القبيلة السياسية، والالتحاق بالمستقبل من خلال تعزيز مفاهيم الدولة والحقوق والواجبات، وتعزيز مبادئ المساواة والعدالة، وإدخال مناهج الديمقراطية واحترام الاختلاف والآخر.

مقالات أخرى للكاتب