10-11-2014

ورطتنا مع التعصب المذهبي

أرجو الله أن تكون جريمة الدالوة هي الأخيرة، بعد أن تتم عاجلاً تصفية الحساب بالكامل مع الإرهاب المذهبي وتحويله إلى رماد. يوجد تراكم تاريخي عفن من انعدام الثقة المتبادل بين أتباع المذهبين الرئيسيين في الإسلام. محلياً وهذا ما يهمنا عاجلاً، لا بد من العمل بإخلاص على تفكيكه بخطوات عملية على مستوى المناصب العليا والإدارة المدنية والعسكرية والمحاكم الشرعية والتعليم الديني، وأن يكون على رأس الأولويات التعامل مع الخطاب الديني الرسمي والشعبي، للاستفادة العقلانية منه كأداة التحام وتضامن بضوابط وطنية، وليس كأداة تحريض وقتل وتفجير إجرامية، كما هو واقع الحال للأسف.

انعدام الثقة بين أبناء المذاهب الإسلامية يشبه السرطان في قدرة خلاياه على الكمون ثم على الاستنبات من جديد حسب الظروف التاريخية. يتجاور ويتعايش سكان الأحياء وأطفال المدارس وزملاء العمل مع بعضهم عبر فترات هادئة وطويلة من الزمن، لا يسأل طرف عن مذهب الآخر ولا يهمه معرفة ذلك، ثم وفجأة بسبب ظروف لا تعني الطرفين ينبت من الخلايا المطمورة منذ قرون ثمار سامة وقاتلة.

من يعتقد بانتصار نهائي لمذهب على المذاهب الأخرى ضال وواهم. التعصب المذهبي لا يصنع المستقبل، بل يدمره. بسلطة المذهب يمكن تحريم الحلال وتحليل الحرام وخلع عادل وتنصيب جائر وتكفير مؤمن وتزكية كافر. العيش مع الصراعات المذهبية يشبه وضع الجسد المريض بالخراريج والأورام، لا تنفع معه المراهم والمسوح والتعاويذ ولا تبادل المجاملات التسامحية بعد كل مصيبة. الشفاء الكامل يتطلب الجرأة على شق الأورام والخراريج وتفريغ القيح المتجمع بداخلها عبر مئات السنين، للتخلص النهائي من الجراثيم التي لا تتكاثر إلا في الظلام.

حادثة جريمة القتل العمد على الهوية المذهبية قبل أيام في الدالوة لا علاقة لها بالتدين ولا التقوى ولا الفطرة الإنسانية السليمة، وهي جريمة بشعة وكفى. المسؤول عنها هو تاريخ البغي المتبادل المتستر بالمذاهب. الدين السماوي عادل جامع، لا يبيح استباحة الأعراض والأموال ولا يحل القتل إلا كقصاص محدد باستحقاق شرعي واضح لا لبس فيه. المذاهب الفرعية هي التي أباحت فعل ذلك على الهوية، بما يتم شحنه فيها من احتيال بشري لامتلاك التسلط الدنيوي على الآخرين.

السؤال الكبير الذي قد تعطي إجابته مخرجاً نهائياً من النفق المظلم الذي نحن فيه، هو من أين جاءت الخراريج والأورام المذهبية والطائفية ؟. المصدر هو التاريخ المصنوع بشرياً وليس التشريع النازل من السماء. بسبب هذه المرجعية التاريخية القديمة لن نستطيع حل ورطتنا المذهبية الطائفية بالطريقة التي تعاملنا بها حتى الآن. الثقة بالمبادرات المتبادلة تبدو ضعيفة فيما يقال ويعلن ويكتب بعد كل جريمة مذهبية يرتكبها هذا الطرف أو ذاك، سواءً جاءت المبادرات من المستويات الرسمية أو المرجعيات الدينية أو من الفذلكات الاستعراضية بين المثقفين في الجلسات الخاصة والمنابر الإعلامية.

كذلك لن ينفع ولن يكفي إجراء جردة حساب مع الجرائم المذهبية المتبادلة على المستوى المحلي داخل الحدود السعودية فقط، بمعزل عن الصراعات المذهبية والسياسية خارج الحدود وبمعزل عن التعاطف المذهبي مع الخارج على حساب الداخل.

الإشكال المذهبي الطائفي كل لا يتجزأ، والبشاعات التي ترتكب باسمه والبذاءات التي تروج في أدبيات كل طرف ضد الطرف المحلي الآخر لا يمكن النظر فيها، علة وتبريراً وتوقيتاً، بمعزل عن التورط في البشاعات والبذاءات التي تحصل في العراق وسوريا واليمن وإيران.

درجات الفساد والخبث في الصراعات المذهبية تصبح أشد وضوحاً للعقلاء عندما يضيفون إليها في التحليل أيضاً الفضائع التي يرتكبها أتباع المذهب ضد أتباع المذهب نفسه، لكونه يختلف عنه في المرجعية الفقهية أو السياسية. واقع الحال هذا ينطبق على المذهب السني ضد تفرعاته والمذهب الشيعي ضد تفرعاته بنفس المقدار.

بدايةً وتأسيساً علينا أن نقر ونعترف بأن الشحن المذهبي الطائفي ليس وطنياً، بمعنى أنه ليس نابعاً من المكونات الوطنية ضد بعضها، لكنه شحن عاطفي سياسي نفعي يتعدى الحدود الجغرافية الوطنية ليستعمل كسلاح في أيادي المرجعيات المذهبية والألعاب السياسية. الصحيح تماماً أن صراعنا الوطني مع الإرهاب المحسوب على التسنن السياسي، بدءاً من تمرد الإخوان ثم جهيمان، فالقاعدة وداعش والنصرة إلى آخره، كان وما زال أشد فداحة وضرراً على الوطن بكل مكوناته السنية والشيعية. صحيح أيضاً أن مقدار التعاطف الشعبي السعودي مع الحركات الإرهابية السنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، له ما يقابله كماً ونوعاً من التعاطف الشيعي السعودي مع الحركات الإرهابية العلوية في سوريا وحزب الله وأمل في لبنان والحوثية في اليمن وأطياف الأحزاب السياسية الشيعية في العراق.

الفارق الوطني الجوهري هو أن الحركات الإرهابية الشيعية المذكورة أعلاه تشكل أوراقاً سياسيةً عميلة في يد إيران ضد الجغرافيا العربية بكل مذاهبها.

الاستنتاج النهائي: التخندق المذهبي وتجريم كل طرف لآخر علة سياسية تاريخية مزدوجة، ينتقل التحكم في أسلحتها المدمرة من يد لأخرى حسب الظرف التاريخي، لكنها في المحصلة النهائية تقتل كل الأطراف وتعطلهم وتضطرهم للتطفل حضارياً ومعيشياً على مزابل الأمم الأخرى والاستقواء بها. التعايش الوطني مع العصر بمعطياته ومتطلباته وإنجازاته العلمية والحضارية يتطلب القطيعة المذهبية والعاطفية مع التاريخ المذهبي الخاص، والبدء بكتابة تاريخ وطني جديد اسمه البناء المشترك لكيان واحد يتمتع الجميع فيه بنفس الحريات والحقوق والفرص.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب