17-11-2014

متسلق مثل نبتة الفانيليا..

كنت دائمًا ما أرى أن الإنسان كائنًا متعدد الوجوه والسمات، ويعبر عن الطبيعة في مختلف وجوهها وصفاتها البدائية، فعلى سبيل المثال تتميز الكائنات الأخرى بسيادة صفة أو غريزة محددة في كل جنس، فالوفاء طبع الكلب، والغدر طبع الذئب، والمكر طبع الثعلب، والقراع طبع التيوس، بينما يختلف البشر في درجة تلونهم بتلك السمات..

عبر بيت علي بن الجهم الشهير في مدح الخليفة العباسي عن تلك الحقيقة الطبيعية، «أنت كالكلب في حفاظك للود، وكالتيس في قراع الخطوب»، وكأنه بذلك يرفع من صفة الوفاء عند الخليفة إلى منزلة عالية كتلك التي يتصف بها الكلب، ويضفي عليه صفة القوة المطلقة في القراع كتلك التي يتصف بها التيس... كذلك هو الحال في إطلاق صفة الشجاعة، فيقال فلان أسد وفلان صقر.

كذلك في عالم النباتات تتفرد النباتات بصفاتها، فنبتة الفانيليا الغالية الثمن والمخملية لا تعمر كثيرًا، ولا تستطيع الاعتماد على سيقانها في الوقوف، ويطلق عليها متسلقة، لذلك تتسلق من حولها للوصول إلى نقطة أعلى، بينما تنمو النخيل وتعمر وتموت في شموخ لا يضاهي، وأن كانت البيئة قاسية وتندر فيها المياه، ويطلق عليها شامخة..

لذلك يصنف الإنسان الذي يصل على أكتاف الآخرين متسلقًا، حين لا يستطيع الوصول إلى مبتغاه من دون أن يتسلق من حوله، وهو بذلك يستخدم سمات فطرية في بعض النباتات من أجل تعويض ضعفه أو قلة حيلته، وتطلق صفة الشموخ على الإنسان الذي يشق طريقه من دون استخدام التزلف، وهي صفة مستمدة من شموخ الأشجار.

في غريزة التسلق، كان البشر يعبرون عن تلك العلاقة غير العقلانية، عندما كانوا يبنون أصنامًا وتماثيل للتعبير عن صفة التزلف بصفتها السائدة، وكانوا يبررون بناءها للتقرب من الله زلفى أو قربى، والتزلف هو أول محطات التسلق إلى أعلى، وكان ذلك النمط من التفكير سائدًا بين كثير من العرب القدماء..

وجاء الإسلام ليحطم الأصنام، ويهدم ثقافة التزلف والتسلق، ويقرر أن العمل الصالح فقط هو الذي يصل بالإنسان إلى مكانة أعلى عند الله عزّ وجلّ، وكان ذلك بمثابة خطوة جبارة في إصلاح وتحرير العقل البشري، وذلك من خلال التقرير أن الإنسان لا يحتاج إلى وسيط من أجل الوصول إلى ما يستحق..

جاء الدين أيضًا ليقرر قاعدة مكارم الأخلاق، وأن يصنف الأخلاق إلى سامية وغير سامية، لكن طبيعة الإنسان المتعددة الوجوه والصفات لم تقبل أن ينفصل البشر عن الطبيعة، وبعد أن عادت السيادة إلى ثقافة الغابة لتحكم الحياة بسماتها الإيجابية والسلبية بدأت رحلة العودة إلى الأرض، وعبّروا عنها بمقولات «أول من غدر في الإسلام، وأول من اغتصب في الإسلام» وهكذا..

لتبدأ مرحلة الصراع بين العقائد والمذاهب المختلفة، وهل يصل الإنسان إلى الجنة بعمله، أم برحمته، وهل يوجد في الدين شفاعة، وهل يستفيد غير الصالحين من شفاعة الصالحين، وكان ومازال هذه الموضوع محل اختلاف كبير بين العلماء، وكأن مناصري الشفاعة أو الوساطة يريدون إعادة الإنسان إلى طبيعته المتعددة الوجوه، ويدخل في ذلك مبدأ الوعد والوعيد، وإقرار جواز الإخلال بالوعيد، والوفاء بالوعد..

كان مصطفى محمود آخر العلماء الذين أعادوا الاختلاف القديم حول مسألة تحرير العقل البشري من سلطة الطبيعة، فيما عرف بأزمة كتاب الشفاعة، عندما قال: إن الشفاعة بمفهومها المعروف أشبه بنوع من الواسطة والإتكالية، وأن فيها إعادة لمفاهيم التزلف، وكان الرد قاسيًا للغاية من المجتمع، حين اتهموه بأنه مجرد طبيب لا علاقة له بالعلم الديني..

الخلاصة في الأمر أن العقل البشري بصفاته البدائية المستمدة من البيئة دائمًا ما ينتصر، ومهما تقدم في العلم وفي معرفة العلوم الحديثة، يعود في نهاية الأمر ليضيء شمعة أمام ضريح من أجل التبرك، أو أن يتمسح بعباءة عالم جليل من أجل أن يشفع له في اليوم الآخر، أو أن يتملق عند صاحب جاه أو واصل من أجل أن يفتح له بابًا إلى أعلى...

أخيرًا، في معترك الحياة ومصالحها يعود الإنسان إلى جذوره الطبيعية المتعددة السمات، وأن يتسم بصفة التسلق كنبتة الفانيليا، أو إلى أن يكون مثل شجرة الطلح شامخًا في بيئة الجفاف، أو إلى أن يكون رمزًا للوفاء كالكلب، أو غدارًا كالذئب، أو غرابًا يأكل الجيف، أو صقرًا يحلق في السماء وحيدًا..

مقالات أخرى للكاتب