29-11-2014

الأمن النووي وأمن الإنترنت: أيهما أولى؟

لقد سبق وأن كتبنا أنه أمكن حتى الآن، التحكم في المخاطر النووية، المعروفة منها والجديدة. وفي العصر النووي الأول، سادت رؤيتان رئيسيتان متناقضتان: الأولى مثلث بـ»المفارقة الكبرى» التي أطلقها ونستون

تشرشل؛ تعبيرا عن أمل أكثر منه قناعة، وهي القائلة: إن «الأمن سيكون الطفل القوي للإرهاب، والبقاء هو الأخ التوأم للإبادة»، في حقبة الحرب الباردة، أما الثانية فهي «الحقيقة المتناقضة» التي عرضها هنري كيسنجر، عام 1960، بقوله: إن «قدرا من الأمن يكمن في الأرقام». وقد وقف هذان التناقضان التوأمان، وراء توجه القوى العظمى لبناء ترسانات هائلة، كما أن توافر مزيد من «الأمن» النووي، زاد هذين التناقضين حدة، بطرائق عدة؛ فطوال عقود، كان هناك آلاف الأسلحة النووية جاهزة للإطلاق، لكن أيا منها لم يستخدم في ساحة حرب فعلية.

وقد يصاغ تناقض آخر للتعامل والهواجس الشائعة على نطاق واسع، بشأن الإرهاب النووي في العصر النووي الثاني. وفي الإمكان تصور عدد لا حصر له من الأعمال الإرهابية النووية، ولكن أولها لم يحدث بعد. ولعل إحدى وسائل الحماية منه - حتى الآن - أن أخطر هذه الأعمال يتطلب توفيرا أصعب للإمكانات والقدرات؛ فإنتاج سلاح نووي واحد - بافتراض عدم شراء قنبلة سليمة صالحة للاستخدام من السوق السوداء - يتطلب تعاونا واسعا بين أطراف كثيرين، وتوافر مجموعة من المهارات المتنوعة، ثم إن الخلايا الإرهابية تعمل تقليديا، بشكل منعزل.... ولكن هناك أمن آخر يشغل الخاص والعام، وخطورته بدأت تكبر وهو أمن الإنترنت... وهو اليوم من المواضيع الحساسة والاستراتيجية التي تشغل بال العديد من الحكومات عالمياً وعلى رأسها الدول الكبرى.. فلم يعد غريباً أن تقرأ مثلاً أن قراصنة تمكنوا من اختراق بعض الحسابات الخاصة على البريد الإلكتروني الخاص بكبار المسؤولين الأمريكيين، أو أن تتعرض مؤسسات دولية وأجهزة أمن قومية لهجومات إلكترونية. وليس غريباً أن نسمع أن الجيش الإسرائيلي يعمل سنوياً لتأهيل مئات الجنود والضباط للعمل في مجال الحرب الإلكترونية في إطار الدوائر الاستخبارية والتنصت، أو أن نسمع ونقرأ عن تصريحات لبعض المراسلين والقادة الإسرائيليين بأن تل أبيب باتت اليوم تستعد للحرب الإلكترونية بشكل حثيث، خشية أن تدخل في أنظمتها الحساسة فيروسات تشل عملها في أحرج الأوقات، وخاصة أن خصومها نجحوا في السيطرة على عدة أنظمة في السنوات الأخيرة، وقفزوا إلى مراتب تقنية ذات صلة بحرب «السايبر» -التي يسميها البعض أيضاً «حرب الظلال» - الجارية بين الجيوش في عمق قلب معلومات العدو، وتشبه الحديث عن «رقعة شطرنج» ضخمة عالمية يتحارب فيها أفضل العقول.

فأمن الإنترنت أضحى من الخصائص المباشرة لعمل أجهزة الأمن القومي ومصالح الجيوش ووزارات الدفاع التي تضع خططاً واستراتيجيات لحماية أمن شبكاتها الإلكترونية، ومن ثم أمنها الداخلي. ومنذ أشهر، وفي سابقة من نوعها، بادر القضاء الأمريكي بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي... والجنود كما جاء في بعض التقارير الاستراتيجية الأمريكية هم أعضاء في وحدة مسماة «الوحدة 61398 للجهاز الثالث لجيش التحرير الوطني».

وهؤلاء الجنود الخمسة اتهموا بأنهم من سنة 2006 إلى سنة 2014 تولوا سرقة أسرار تجارية لشركات أمريكية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة وغيرها، كما أن الخروج العلني لكبار المسؤولين الأمريكيين وتدخل القضاء الأمريكي هو دليل على التذمر الكبير والخطر الواضح لحرب جديدة لم تعهدها البشرية من قبل وخاصة إذا كانت تشرف عليها أجهزة دولة بعينها.

والتجسس مسألة قديمة قدم الدبلوماسية الكلاسيكية، ولكن هذه المرة تستعمل شبكات التجسس أدوات وتقنيات حديثة يصعب احتواؤها، وتقع في مواطن لا تخطر على بال أحد... فوجود الوحدة 61398 كان من اكتشاف الشركة الأمريكية للأمن «مانديانت» Mandiant الذراع الاستشارية للحكومة الأمريكية، التي استطاعت بعد مجهود مضن اكتشاف تواجد الوحدة في شنجهاي في مبنى من اثني عشر طابقاً، ويعمل فيه الآلاف من الجواسيس والخبراء المدربين... وأوضحت شركة «مانديانت» أن الاقتصاد الأمريكي يفقد ما بين 24 ملياراً و120 مليار دولار سنوياً بسبب القرصنة الإلكترونية الصينية.

وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة هي هنا بمثابة الضحية، فلها هي أيضاً من القوة التقنية والملَكة والسبق العنكبوتيين ما يمكنها من التجسس على العالم بصمت ودراية مستعملة أماكن يصعب التنبؤ بها، وقد كشف عن بعضها عميل المخابرات الأمريكي الهارب أدوارد سنودن؛ إذ تنصتت أمريكا شهرياً على سبعين مليون مكالمة في فرنسا وستين مليون مكالمة في إسبانيا مستعملة السفارة البريطانية في ألمانيا، مع العلم بأن للولايات المتحدة سفارة في ألمانيا... هذا التنصت ليس لغرض إثبات التفوق التقني أو التسلية أو الرياضة الذهنية وإنما هو نوع من العمل العسكري بغطاء مدني للتجسس على أسرار اقتصادية وسياسية وعسكرية، وعلى رؤساء دول، ونخب وشعوب بلدان عن بكرة أبيها، والتأثير في مجريات الأحداث الدولية المختلفة من احتمال انتخاب رئيس دولة إلى صناعة أدق طائرة من دون طيار في العالم؛ ويمكن أن نفهم مثلاً رد الفعل اللامبالي تقريباً للمستشارة الألمانية على التجسس عليها لما يزيد على عقد من الزمن، لأنها تدرك أن أمريكا دعمتها وسهلت صعودها السياسي لتبنيها منحى اقتصادياً يتماشى مع السياسة الاقتصادية الأمريكية... ثم إن التجسس الاقتصادي والعسكري كما تمارسه أمريكا والصين ليس لوضع الوثائق المسروقة في الرفوف، وإنما لإعطائها للشركات العسكرية والصناعية قصد استعمالها، وهنا أحد تجليات الاستراتيجية العسكرية والأمن القومي.

وهناك تقريباً سبعة عشر بُعداً للاستراتيجية -كما يقول كولن إس. جراي- وهي: الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجيستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الاستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد ينبغي أن تؤخذ في الحسبان في كليتها، أي باحتساب كل بعد منها فردياً، من دون إغفال أي منها، مع احتساب تأثير البعد الواحد في سياق علاقته بالأبعاد الأخرى... وأظن أن هذه الأبعاد مجتمعة هي التي جعلت الولايات المتحدة تحاكم علناً الجنود الخمسة الصينيين بعد الفضائح المتتالية التي عرفتها السياسة التجسسية الأمريكية، والتي بوأتها مكاناً في مصاف الدول المعتدية والمنتهكة للقوانين الدولية والحريات العامة...

فأهم ما يسعى إليه الخبراء الاستراتيجيون الأمريكيون اليوم هو حماية مصالح أمريكا وتعزيزها داخل البيئة الاستراتيجية الدولية، عبر إيجاد تأثيرات متعددة المستويات والمراحل (فضح الصين -ذكر أسماء بعينها -محاكمات لجواسيس عسكريين في تلبس واضح -ذكر عنوان الوحدة العسكرية الصينية المكلفة بالتجسس، إلى غير ذلك).

فالاستراتيجي يكون ناجحاً إذا فهم طبيعة البيئة الاستراتيجية، وبنى استراتيجية تتسق مع هذه البيئة، بحيث لا يُغفل طبيعتها، ولا يستسلم للأطراف الأخرى، أو للمصادفة. وقد وُصفت طبيعة البيئة الاستراتيجية مرات عدة، من قبل سلطات مختلفة، ويُشار إلى هذه البيئة في منشورات وثقافة كلية الحرب الأمريكية باختصار مكون من أربعة أحرف (VUCA)، وهذا يتضمن الوصف التالي: «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الاستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض.

مقالات أخرى للكاتب