مسلسل (موت المعلمات) ومن يبكي عليهنّ

محمد بن إبراهيم فايع

عفواً فلم يعد لي مجال بأن أكتب أو أقترح، كيف يجب أن يتم إنقاذ بنات الوطن «المعلمات» من حوادث الطرق وفواجعها، وصيانة أرواحهنّ التي في كل عام تُزهق على الطرق، حتى تحولنّ إلى خبر دائم يلاحقنا، لمسلسل طويل لحوادثهنّ مع الطرق، الله وحده يعلم متى سينتهي؛ وكأن (كل الحلول قد نضبت من أفكار المسؤولين) لتجدنّ المعلمات أنفسهنّ مع (سائقين، مصروعين، ملهوثين على جمع المال، محروقين بحب المادة بسياراتهم المهترئة، وكل رأس مالهم، وأحلامهم في الثراء، وبناء مستقبلهم تتّجه نحو حسابات رواتب المعلمات) أنا اليوم وفي مقالي هذا أجدني أمام تراكم أكوام من الأحزان والفواجع تملأ بيوت من فقدوا بناتهم المعلمات، وهنّ بنات الوطن أولاً وآخراً، فلم يبق لي إلا الكلمات تلو الكلمات، لأسكبها مشتعلة، محترقة أمام ناظريكم، فليس هناك (فاجعة) قد تعصف بأرواح أسر عديدة في كل مناطق المملكة الحبيبة، وتزيد من لهيبها (كخبر ينزل على أفرادها فجأة كالصاعقة) ليُلبس نفوسهم بالحزن والألم، وينشر في ساحات حياتهم خيام العزاء، حينما يُنعى إليهم (نبأ) وفاة بناتهم المعلمات، اللائي ذهبنّ ضحايا الطرق، لتملأ فضاءاتهم كلمات العزاء وعباراته التجمّل، وتحول بيوتهم إلى أجواء مشحونة بالأسى والدموع والحسرة عليهنّ وفي قلوبهم نداء (لقد عجلت عليك يد المنايا.. وما استوفيت حظك من صباكا) (فأحسن الله عزاء تلك الأسر التي فُجعت في بناتها المعلمات، وجبر مصابهم) إذْ إنهم فقدوهنّ فجأة، ولم يتسن لهم ليودعوهنّ، فقد خرجنّ يسابقن نسمات الفجر، وبأيديهن حقائب مُلئت بسجلات وأدوات، وكسرات خبز تقوي صلبهم، متجهات إلى مدارسهنّ، إمّا بُعيد منتصف الليل، أو مع خيوط الفجر الأولى، على أمل أن يلتقوا بهنّ مثل كل يوم، فأي قلب يقوى على حمل «خبر الفقد» ليلقيه على مسمع أطفال صغار ليخبرهم (بأن أمكم اليوم لن تعود كالعادة عند الظهيرة، وهي تحمل لكم بعض الحلوى من مقصف المدرسة، ولن تجدوها عند المساء تقبل جباهكم، وتستودعكم فرشكم قائلة: تصبحون على خير)؟! ومن سيلوم (أمهات) سيذرفنّ الدموع على بناتهنّ، وهنّ يراقبنّ من يواريهنّ الثرى، وقد عاد بهنّ شريط العمر ليتذكرنّ يوم كنّ ينمنّ في أحضانهنّ، ويتوسدنّ أذرعهنّ، حتى كبرنّ، وحملنّ أحلامهنّ، وبنينّ حياتهنّ، ونسجنّ عقودَ مستقبلهنّ الآتي، ليأتي (الموت) فجأة، فيكسر تلك الأحلام، ويُحطّم تلك النفوس، ويخطف الفرح؟! ومن سيقوى على إخبار التلميذافي اليوم التالي للمصيبة، ليخبرهنّ (أن معلمتكنّ.. لن تدخل عليكنّ بعد اليوم، ولن تسمعنّ صوتها، ولن تقلّب دفاتركنّ، أو تضع أسماءكنّ على لوحة الشرف، وتزّين صدوركنّ ببطاقات التشجيع؛ فقد فارقت دنياكنّ، ولم يعد باقياً معكنّ سوى تلك اللوح والرسوم والآثار، وبقايا صوت يزور خيالاتكنّ يحمل همسها، ضحكها، شرحها، عتابها، وعبارات تحفيزها) ومن سيمسح عبرات أزواج وجدوا أنفسهم يسترجعون شريطاً من الصور والذكريات من طوايا نفوسهم وخلجاتها، لشريكات أعمارهم، بعدما أصبحنّ بعد القرب بعيدات بُعد الثرى، بعد أن كان يجمعهم سقف بيت واحد؛ فواراهنّ الثرى، وغبنّ للأبد، ولسان حالهم يقول: (يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي.. إلا الأسى في حنايا القلب يستعر) وكيف هو (حال آباء غاب عن ساحتهم طفلات الأمس، معلمات اليوم، ووقع خبر رحيلهم عليهم صادماً أليماً، وقد عانقت عبراتهم خدود جعدها الزمن وأوجاعه، ولم يخفّف عظم مصابهم؛ إلا إيمانهم بحتمية الرحيل للجميع، فتحزموا بالصبر كأجمل دواء عند الملّمات وقالوا «وإذا تصبك مصيبة فاصبر لها.. عظمت بلية مبتل لا يصبرُ.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.