د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أشرقتْ في الأسبوع الماضي ردهات مركز الملك عبدالعزيز الدولي للمؤتمرات بإضاءات ترسم المستقبل البشري مؤطراً بوافر من المبادرات العملية لبناء القدرات الوطنية تحملها طروحات تفيض من خبرات عالمية نقلت التجربة وبسطتْ النتائج، وقد وجدتْ في مستراد بلادنا العملاقة بساطاً خصباً وتواشجاً نحو المستهدفات البشرية المتمكنة؛ وحتى لا يكون التطوير جزئياً غير متسق الأطراف، ولا تكون التجارب التطويرية رهينة أسوارها؛ فقد التقتْ بلادنا بالعالم وعلى جدولها التنفيذي وفي مشغلها التنموي منظومة متكاملة ترسم أطرها كافة الوزارات والمؤسسات المعنية بالقوى البشرية العاملة التي تؤطر لزرع الإلمام والقدرة والتأقلم! فالمتعلمون لا يجب أن يعرفوا فقط، بل يؤدوا ويسألوا ويستزيدوا ودائماً ما نتساءل هل ندير الاقتصاد أم نصنع اقتصاداً جديداً وهل نصعد للأفلاك أم نهيأ أولاً للصعود؟ وقد أدركتْ القيادات المسؤولة في بلادنا أمراً ملحاً وهو ترسيخ القيم وبناء مجتمعات مترابطة، وأن تتواكب نمطية الدراسة والتخصص ومتطلبات العمل وأنظمة الموارد البشرية مع مستجدات العصر، فلم تعد بلادنا بحاجة إلى إهدار سنوات من العمر في سبيل تحصيل تقليدي والعلم يقفز كل ساعة وحين!
وإذا كان هناك ما يُسمى بدراسة أكثر من تخصص، وما يُسمى بالشهادات الاحترافية والتدريب المنتهي بالتوظيف والتمهير فهذا هو مربط الفرس ومضمار انطلاقه نحو النهايات المزهرة، ولم يعد المستقبل مرهوناً بوظيفة واحدة يهدر فيها جل اليوم على مقعد الدوام ومعدل الإنجاز بخطاب وخطابين وما هو على شاكلتهما! فإعادة النظر في سياسات العمل والتعلم أمر ملح جداً، فالحياة تتضخم بمسؤولياتها والزمن بتسارع والمطالب لا تنتهي؛ والإنسان حتى وإن كان فائق القدرات يعيش في عالم يتهيأ لتغيير صورته كاملة في كل لحظاته سواء على مستوى علاقاته أو مستوى التحديات الجديدة التي يختارها لنفسه ومستقبله،كما أن الأعمال اليوم تتشظَّى وتتناثر أو ما نستطيع أن نسميها الأقليات المهنية؛ وفي الجانب الآخر أصبحت الفرص الجديدة أكثر تنوعاً وأعظم انفتاحا؛ فالتقدم المدهش يشكل شبكة مذهلة من وسائل المشاركة المباشرة، ولقد أدركتْ قيادتنا -حفظهم الله- تلك التحولات المجتمعية؛ وحاجة المواطن السعودي إلى قدرات استثنائية داعمة تجعله قادراً على مواكبة المعاصرة والمنافسة محلياً وعالمياً؛ فانبثق من ذلك الوعي برنامج تنمية القدرات البشرية الذي أعلنه سمو ولي العهد محمد بن سلمان كأحد برامج تحقيق الرؤية السعودية العملاقة 2030 ، ومنذ استحداث البرنامج وإطلاقه (2019) تشكّلتْ إستراتيجية وطنية قوية ودقيقة في مساراتها لتعزيز قدرات المواطن السعودي لاغتنام الفرص المعروضة في الحاضر والمستقبل؛ وحتى يكون جاهزاً للمنافسة العالمية علمياً وعملياً من خلال تطوير مهارات المستقبل وترقية مستويات المعرفة العلمية عنده، كما أن البرنامج رحلة مبشّرة -بإذن الله- تحمل كل أدوات المسير بدءاً من مرحلة الطفولة إلى الجامعات، وكما أبان سمو ولي العهد تتكئ المبادرات على ثلاث ركائز يتصدرها تطوير أساس تعليمي متين ومرن للجميع، والإعداد لسوق العمل المستقبلي محلياً وعالمياً؛ ومنح الفرص للتعلم مدى الحياة»... ويتبلور مفهوم التنافسية مع تطوير القدرات البشرية من خلال القدرات الذكية وبناء مقوماتها وتنميتها لدى الأفراد، وفي العصر الحديث يمثِّل الذكاء الاصطناعي إستراتيجية تنموية يتباهى بها صانعو النهضة في المجتمعات الحديثة؛ وبرنامج تنمية القدرات البشرية قام على قراءة دقيقة للماضي والحاضر؛ ومن ثَمَّ احتاجتْ حركته التنفيذية إلى مقدرات وتآزر مؤسسي متين، وقد ظهر التعليم كحلقة حيوية في مفاصل البرامج لشموله المعرفة، وصقل المهارات المهنية، وأهمية التعليم لم تعد اليوم محل جدل، فالتعليم هو الذي يشكل توجهات مجتمع المستقبل؛ ولأن برنامج تنمية القدرات البشرية في منظورنا الوطني هو محفز حديث يُحتم مراجعة دور المؤسسة التعليمية: وظائفها وغاياتها بما يحقق أن يكون التعليم لتمكين القدرات البشرية الحاضرة من مواصلة الطريق نحو المستقبل بفعالية عالية تحقق التنافسية، فالمطلوب إعداد الطلاب لينجحوا في الحياة؛ فمن المتكآت لذلك أن تُشكل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جزءا أساسيا من صناعة التعليم على المستوى النظري ومن ثم َّ التطبيقي؛ وأن تدخل ابتكارات حديثة في التشكيل المدرسي وصورة الفصل الدراسي، وأن يكون للمعلم حضور في كل تخطيط معرفي تنموي؛ كما أننا بحاجة إلى أوقات كافية لإذكاء الحماس المجتمعي تجاه العلوم المختلفة، ولذلك لا بد من تشكيل المعرفة وتقديمها لتوسيع نطاق التعليم في المجتمعات الحديثة ومثله التدريب ونشر المعرفة مما يمنح فرصاً عظمى للمتعلمين للتفكير بشكل مستقل!
وتظل تنمية القدرات مطلباً مفترضاً لتحقيق التنافسية والاستمرار والصعود للقمة، ولا بد فيها من القياس والتقويم والتقييم المؤسسي حيث إنه يأخذ الدور الأعم في أي منظور استراتيجي تنموي؛ وبالاطلاع على وثيقة البرنامج عبر منابر إعلانها، ومع حضور وطننا المضيء الفاخر عالمياً.
هناك أوجه حراك مختلفة للحضارة البشرية السعودية الحديثة وبرنامج القدرات البشرية في الذروة منها، وعندما جاء مؤتمر مبادرة القدرات البشرية في نسخته الثانية في الأسبوع الماضي برعاية كريمة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- فإن بلادنا امتلكت سوق عمل شمولياً ومبادرة مسرعة المهارات ومعسكراً وطنياً لتدريب القوى العاملة ومنصة المهارات الوطنية، وهناك حتماً أدوار جديدة تظهر.
وختاماً فإن القدرات البشرية هي من المؤثرات التي تقود العالم!