د. شريف العبدالوهاب
هذه الأمور تبرز أهميتها للتوسع بتطبيق الاتفاقيات التي وقعت عليه المملكة مثل اتفاقيات السلامة بمنظمة العمل الدولية) رقم 155 بتاريخ 1981م، (واتفاقية) رقم 161 بتاريخ 1985 وإتفاقية (رقم 187 عام 2006)، و(اتفاقية الإطار الوطني للسلامة والصحة المهنية) والمصادق عليها يونيو 2024 وتدخل حيز النفاذ قريبا في يونيو 2025م والتي تتضمن ضرورة ان تعمل كل دولة عضو تصادق على هذه الاتفاقية على التعزيز والتحسين المستمر للسلامة والصحة المهنية لمنع الإصابات والأمراض والوفيات المهنية، وذلك من خلال وضع سياسة وطنية ومعايير وطنية وبرنامج تنفيذي لها، بالتشاور مع المنظمات الأكثر تمثيلا لأصحاب العمل.
هذه بالطبع ممكن تطبيقها من خلال إنشاء أنظمة وطنية للسلامة والصحة المهنية تعتمد على التشريعات والمعايير الدولية، والهدف أن يساعد تطبيق الاتفاقية على تقليل معدلات الحوادث والإصابات المهنية، مما يساهم في تحسين بيئة العمل وزيادة الإنتاجية.
والاتفاقية تشجع الدول على تطوير سياسات فعالة لضمان سلامة العمال في جميع القطاعات، بما في ذلك الإنشاءات، الصناعة، والمجالات البحرية.
ومنظمة العمل الدولية تقوم دورياً بتقييم أحوال سلامة العمال في الدول الأعضاء، وفي عام 2015م، في الاجتماع السنوي لمنظمة العمل الدولية، طالبت عدد من النقابات العمالية المشاركة في المؤتمر بإصدار قرار بحق دولة قطر تحت مزاعم تكرار العديد من الحوادث المميتة في مشاريع كأس العالم لديها، إلا أن دول الخليج والدول العربية آنذاك اتحدت لإفشال تلك المساعي وتبيان حقيقة الأمور، ونحن بالمملكة في خضم مشاريع (إكسبو وكأس العالم) لن نكون معزولين عن مثل هذه المزاعم.
وبلادنا لن تتأخر في اتخاذ أية أمور ضرورية لإيجاد البيئة الآمنة الصحية للعاملين، ونحن نتعامل مع هذا الأمر من منطلق إنساني وأخلاقي أولا، ثم من منطلق مهني، ونتطلع أن يتحقق عبر وضع وتطبيق المعايير المهنية في السلامة من خلال عمل وطني مؤسس لذلك.
وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تقوم بوضع السياسات والتشريعات اللازمة لتعزيز السلامة والصحة المهنية؛ حيث يعتبر المجلس الوطني للسلامة والصحة المهنية جهة استشارية تهدف إلى تعزيز معايير السلامة والصحة المهنية في المملكة، وأطلقت الوزارة مبادرات لتعزيز السلامة والصحة المهنية مثل برنامج كوادر السلامة والصحة المهنية لتعزيز معرفة ومهارات الكوادر البشرية في مجال السلامة والصحة المهنية من خلال مسارين (الممارس والمحترف).
إلا أن الوزارة قد لا تكون الجهة المناسبة مهنياً في تأسيس أو الاشراف على جهة محترفة معنية بسن أنظمة ممارسة السلامة والصحة المهنية (standards)، وهذه تتطلب وجود كيان متخصص يعمل على وضع معايير وأدلة لتطبيق تلك الأنظمة (codes) بالمقارنة مع الهيئات الوطنية العالمية ومحلياً مع الشركات الكبرى التي ضلعت في مثل هذا الجانب، حيث إن هذا الحقل هندسي فني متخصص في السلامة، ويشمل عدة أنواع منها السلامة المهنية العامة، والحد من الخسائر، والتحقيق في الحوادث، ومنع الحرائق.
كما أن السلامة المهنية العامة تنقسم إلى سبعة مجالات، وهي:
(1) السلامة في مواقع البناء والتشييد (2) السلامة في المنشآت الصناعية والمصانع، (3) السلامة في قطاع النفط والغاز. (4) السلامة البحرية والموانئ، (5) السلامة الكهربائية (6) السلامة في المختبرات والمستشفيات، وأخيراً (7) السلامة في بيئات العمل المكتبية.
إننا نحتاج بكل تأكيد لهيئة تنظيمية مستقلة ذات مرجعية بحيث تعمل على سن الأنظمة والتشريعات المهنية لمجالات السلامة، وتقوم بالكشف الفني على تطبيق معايير السلامة، وتقوم بالتحقيقات في الحوادث المميتة أوالكارثية، لا سمح الله، وتتولى برامج التوعية للمنشآت، وتجيز البرامج التدريبية سواء من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أو من غيرها، وتقوم بالتأهيل والتعاقد مع الجهات الخاصة لاجراء عمليات التفتيش وضبط المخالفات، مع إشراك المواطن وتفعيل دورهم في الابلاغ عن المخالفات.
في تجارب حية بالمملكة وفي المشاريع الكبرى المتعاقد عليها مع شركات أجنبية مرموقة مثل مترو الرياض، نشاهد بشكل لافت حفاظهم على معايير سلامة الموظفين ونتمنى الاهتمام بالسلامة في كل المشاريع الكبرى.
ونقول، نتمنى، بسبب المؤشرات التي نراها، ففي عام 2022 سجلت المملكة حوالي 28 ألف إصابة عمل تقريباً، وكان قطاع البناء والتشييد الأعلى بنسبة تقارب 10 آلاف إصابة تقريباً؛ وفي الربع الأول من عام 2016 سجلت المملكة ما يزيد بقليل عن 15 ألف إصابة في القطاع الخاص، حيث شكل قطاع البناء والتشييد ما يزيد عن %40 من هذه الإصابات لهذه الفترة، و%41 تقريباً عام 2019 من إجمالي الحوادث الصناعية في المملكة.
ما زال قطاع البناء والتشييد يسجل نسبة عالية من إصابات وحوادث العمل في المملكة. وفي بعض المشاريع الأخرى التي لا تقل أهمية نشاهد العدد الكبير من المخالفات النوعية للسلامة المؤدية للإصابات نتيجة غياب معايير سلامة واضحة أوغير مطبقة؛ إذا هي متوفرة، ومنها مثلا مشاهدة العمال في الجزيرة بين المسارين، بالذات في الدائري الشرقي أو طريق الدمام، أثناء تشجيره دون وجود أية عوامل تحمي العامل من السقوط على الطريق، أو تحميه من حوادث الدهس، مع غياب مرشدات السلامة الضرورية لقائدي المركبات مما يهدد حياة العاملين، أو تعرضهم لإصابات جسيمة وخطيرة.
إن تحديات السلامة المهنية هذه قد تـؤثر على عمليه التوطين النوعي للمنشآت الصناعية والمقاولات في المملكة الذي نتطلع اليه.
نحن نتطلع إلى رفع نسب التوطين في منشآت المقاولات لأكثر من النسبة المعلنة وهي %20.
فكما قلنا إن معايير السلامة التي طبقت في بدايات استخراج النفط كانت عامل جذب للعمل في بيئة شاقة وصعبة، نقول الآن إن تنمية بيئة عمل جاذبة معززة بمتطلبات السلامة في قطاع التشييد والبناء سوف تحسن الصورة الذهنية للقطاع.
حاليا، الصورة التي نشاهدها في بيئة عمل ومواقع المقاولات والانشاءات وما تشهد من إهمال لجميع جوانب السلامة، هذا سوف يؤدي إلى عزوف الشباب عنها.
الذي نرجوه، وحتى نفعّل رؤية سمو سيدي ولي العهد -حفظه الله- قائد رؤية تفوق المملكة في جميع الجوانب، هو ضرورة تأسيس هيئة أو مركز وطني للسلامة المهنية اوتفعيل المجلس الوطني للسلامة والصحية المهنية بشكل مبتكر ليقوم بسن وإنفاذ أدلة شبيهة بما ذكر مرفقه بمعايير سلامة للمهن مصممة من الهيئات أو الجهات الفنية المهنية بقيادة ومصادقة الهيئة لمعايير السلامة المهنية، ويُعنى بالإشراف على الجهات التي سوف يُعزى لها مراقبة التنفيذ والتأكد من تطبيق المعايير، ومنها معايير البيئات البحرية لضمان سلامة العاملين في القطاعات المرتبطة بالبحار مثل الصيد التجاري، والنفط والغاز البحري والموانئ والشحن والبحث والإنقاذ البحري، إضافة إلى جميع أنشطة المقاولات العامة والخاصة في المملكة.
هذه النقلة النوعية في التشريع والتنظيم التي نتطلع إليها في بيئة العمل ستكون العامل الكبير المحفز للتوطين النوعي في قطاعات حيوية ثرية بالفرص، وسوف تساهم في تحقيق المستهدف لخفض البطالة، وتعزز وجود شبابنا في سوق العمل وتأخذهم من بريق الوظائف الخدمية أو الإدارية.