هادي بن شرجاب المحامض
في خضم التحولات التنموية التي تشهدها المملكة، برزت التعديلات الجديدة على نظام رسوم الأراضي البيضاء كإحدى أهم المبادرات المحورية التي تهدف إلى إعادة تشكيل المنظومة العقارية بما يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030. هذه التعديلات لم تكن مجرد تحديث تنظيمي، بل جاءت انعكاسًا لمراجعة دقيقة للتجربة السابقة، وتأكيدًا لحرص الدولة على خلق سوق عقاري أكثر عدالة، وتوازنًا، وتحفيزًا للنمو الحضري المتكامل.
ولعل أبرز ما يميز النظام المعدل هو رفع نسبة الرسم السنوي إلى 10 % من قيمة الأرض، مقارنة بالنسبة السابقة البالغة 2.5 %، إضافة إلى إدراج العقارات الشاغرة التي لم تُستغل لفترات طويلة ضمن نطاق التطبيق، وتوحيد معايير المساحات المستهدفة، حيث يشمل النظام الآن مجموع الأراضي أو العقارات التي تبلغ مساحتها 5,000 متر مربع أو أكثر ضمن نفس النطاق العمراني. كما توسّع نطاق الرسوم ليشمل جميع الأراضي القابلة للتطوير، سواء كانت للاستخدام السكني أو التجاري، مع تقليص فترة المعالجة إلى 90 يومًا للأراضي البيضاء وسنة واحدة للعقارات الشاغرة.
بهذا التوجه، تنتقل السياسات العقارية من المعالجات الجزئية إلى إستراتيجية شاملة تعزِّز الكفاءة الاقتصادية وتكافؤ الفرص، وتُعيد ضبط مسار التنمية الحضرية باتجاه أكثر إنتاجية وفاعلية.
ومن الزاوية الاقتصادية، فإن التأثيرات المتوقعة لهذه الإجراءات تتجاوز تحفيز تطوير الأراضي، لتشمل تنشيط القطاعات المرتبطة بالسوق العقاري مثل المقاولات، ومواد البناء، والتمويل، ما يسهم في تعزيز الحركة الاقتصادية وخلق المزيد من الفرص الاستثمارية. كما يُنتظر أن يؤدي هذا التوسع في العرض إلى كبح وتيرة ارتفاع الأسعار وتحقيق استقرار نسبي في سوق الإسكان، بما يدعم الهدف الوطني الطموح برفع نسبة تملك المواطنين إلى أكثر من 70% بحلول نهاية العقد.
أما اجتماعيًا، فالنظام يُعيد التوازن بين العرض والطلب، ويوسع نطاق الخيارات السكنية المتاحة أمام شرائح واسعة من المواطنين، لاسيما فئة الشباب والعائلات من ذوي الدخل المتوسط والمحدود. كما أن استهداف العقارات المهجورة برسوم محفزة يعكس رؤية واضحة بأن المدن ليست مجرد مساحات للتملك، بل بيئات حيَّة تستوجب الاستثمار في تنميتها وتفعيلها.
ومع ذلك، فإن أي نظام جديد -مهما بلغت قوته- يبقى رهينًا بمدى فاعلية تطبيقه ومناعته أمام محاولات الالتفاف. وهنا، تُطرح تساؤلات مشروعة وغير مباشرة، يهمس بها المعنيون والمراقبون للسوق:
هل يمكن أن تُجزأ الأراضي الكبيرة إلى مساحات أصغر موزعة على أطراف متعددة لتفادي شرط المساحة المجمعة؟
وهل من المحتمل أن تُشيّد مبانٍ مؤقتة أو صورية، لا غرض لها سوى إخراج الأرض من نطاق الرسوم؟
هل قد نرى عقود تأجير ظاهرية تُبرم بهدف التحايل على النظام؟
وهل يُستغل نقل الملكية بين شركات قابضة أو كيانات متصلة كأداة لتأخير التطبيق؟
وماذا عن آليات الاعتراض؟ هل ستكون سريعة وشفافة بما يكفي لمنع التعطيل أو التأجيل غير المبرر؟
هذه الأسئلة لا تُعبِّر عن تشكيك، بقدر ما تعكس حرصًا عامًا على نجاح التجربة، وعلى أن تُغلق كل الثغرات المحتملة أمام محاولات التلاعب، خصوصًا من بعض الفاعلين الكبار الذين يمتلكون أدوات قانونية ومؤسسية قد تُوظَّف بصورة لا تخدم الهدف الأشمل من النظام.
لذا، فإن المرحلة القادمة تتطلب منظومة تطبيق حازمة، مدعومة بتقنيات رقمية دقيقة، تتيح الربط الفوري بين قواعد البيانات، وتُحكم الرقابة على حركة الملكيات، وتكشف التجزئة المصطنعة، وتُسرِّع في معالجة الاعتراضات. كما أن اللوائح التنفيذية المنتظرة ستكون هي خط الدفاع الأول لضمان العدالة والصرامة، وترسيخ مبدأ أن الرسوم ليست مجرد التزام مالي، بل أداة تنموية فعَّالة.
إن نظام رسوم الأراضي البيضاء، في صيغته الجديدة، ليس مجرد أداة تنظيمية، بل ركيزة في مشروع حضري متكامل، يهدف إلى تحرير الأراضي المجمدة، وتحفيز التنمية، وتمكين المواطنين، واستعادة المدن دورها الطبيعي كمجالات حيوية للعيش والاستثمار.
وإن كان الطريق لا يخلو من تحديات، فإن الرؤية باتت أكثر وضوحًا: لا مكان لأرض بلا تطوير، ولا مستقبل لعقار بلا وظيفة. السوق العقاري يتجه نحو مرحلة أكثر نضجًا، تكون فيها الثروة العمرانية حاضنة للتنمية، لا مختبرًا للمضاربة.
نجاح هذا التحول المؤكد سيشكِّل نموذجًا يُحتذى به إقليميًا، ويُعيد للمدن توازنها الحضري والاقتصادي والاجتماعي، ويعزِّز ثقة المواطن في عدالة السوق وفاعلية التنظيم، فشكراً سمو ولي العهد على هذا التوجه في ضبط حركة العقار لصالح المجتمع لا لصالح الأفراد.