صاحب الحنجرة الذهبية، وصوت مكة، الملقب بسفير القرآن، وقارئ القبلتين، وعاشق القرآن وكروان الجنة والصوت الملائكي، أشهر قرَّاء القرآن الكريم البارزين في العصر الإسلامي الحديث.
صوت مصري جهوري عملاق، طاف العالم، وجاب الأرض، وأسمع الناس، وخبر الأقطار شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، أحبه الناس، وعشقه الكثيرون.
من هدأة الصعيد وسكونه إلى ضجيج القاهرة وصخبها بدأت حكايته:
ولد الشيخ في قرية المراعزة التابعة لمركز أرمنت بمحافظة قنا في جنوب الصعيد، ونشأ في قلب أسرة قرآنية، أحبت القرآن وحرصت على حفظه وتجويده وترتيله، فالجد هو الشيخ عبد الصمد كان من حفظة القرآن المشهور لهم بالتمكن والإجادة والإتقان، والوالد هو الشيخ محمد عبد الصمد أحد المجودين الحذقة في حفظ القرآن وتجويده، وله شقيقان هما محمود وعبد الحميد كان يحفظان القرآن الكريم، فتأسى بهما الأخ الصغير عبدالباسط وهو يرفل في السادسة من عمره، وكان حفظه على يد الشيخ محمد الأمير شيخ قراء قريته، أما علم القراءات، فهو على يد الشيخ المتقن محمد سليم حمادة.
يقول الشيخ عبد الباسط في مذكراته ما نصه: (كانت سني عشر سَنوات أتممت خلالها حفظ القرآن الذي كان يتدفق على لساني كالنهر الجاري، وكان والدي موظفاً بوزارة المواصلات، وكان جدي من العلماء فطلبت منهما أن أتعلم القراءات، فأشارا عليّ أن أذهب إلى مدينة طنطا بالوجه البحري لأتلقى علوم القرآن والقراءات على يد الشيخ «محمد سليم»، ولكن المسافة بين أرمنت إحدى مدن جنوب مصر وبين طنطا إحدى مدن الوجه البحري كانت بعيدة جداً، ولكن الأمر كان متعلقاً بصياغة مستقبلي ورسم معالمه؛ مما جعلني أستعد للسفر.. وقبل التوجه إلى طنطا بيوم واحد علمنا بوصول الشيخ «محمد سليم» إلى أرمنت ليستقر بها مدرساً للقراءات بالمعهد الديني بأرمنت، واستقبله أهل أرمنت أحسن استقبال واحتفلوا به؛ لأنهم يعلمون قدراته وإمكاناته لأنه من أهل العلم والقرآن، وكأن القدر قد ساق إلينا هذ الرجل في الوقت المناسب، وأقام له أهل البلاد جمعية للمحافظة على القرآن الكريم في «أصفون المطاعنة» فكان يُحفِّظ القرآن، ويُعلّم علومه والقراءات، فذهبت إليه وراجعت عليه القرآن الكريم، ثم حفظت الشاطبية، وهي المتن الخاص بعلم القراءات السبع).
يقول بعض المشايخ عنه: (كنا ذات مرة في زيارة إلى الحرم المكي، وكان شيخ الحرم المكي في ذلك الوقت يقرأ من سورة البقرة إلى سورة الأنعام بقراءة ورش عن نافع فرتل قائلاً: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)، فحرص الشيخ عبد الباسط على أن يقابله ليصحح له سهوه في القراءة، فقال له: كان ينبغي أن تقرأ وتقول: «نبيئهم» بدلًا من «نبيهم»، فقد قرأت في الآية بقراءة حفص، ولم تقرأ بقراءة ورش فأقره الشيخ على هذا السهو في القراءة، وطلب منه أن يبقى في الحرم المكي معهم).
عاصر الشيخ -رحمه الله- الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات وحضر حادثة قتله، أضف إلى ذلك كبار السادة وخاصتهم، حيث انهالت عليه الدعوات من كل أقطار العالم، وكان يستقبل استقبالات رسمية على المستوى الحكومي والقيادي والشعبي، ومثل هذا كان في الباكستان حيث استقبله رئيسها وصافحه، وفي جاكرتا بإندونيسيا، وفي جنوب أفريقيا وفي الهند وفي السعودية لأداء فريضة الحج بمعية والده، أضف إلى ذلك بلدان عدة، ومساجد كثرة، ومن أشهر المساجد التي قرأ بها القرآن المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة والمسجد الأقصى في القدس، والمسجد الإبراهيمي في الخليل الكائن في فلسطين والمسجد الأموي في دمشق وأشهر المساجد في كل من آسيا وإفريقيا والولايات المتحدة وفرنسا ولندن والهند والعراق ومعظم دول العالم فهو أسطورة قرآنية منقطعة النظير.
مما يذكر عنه استماع أكثر من ربع مليون مسلم في جاكرتا بإندونيسيا لقراءته المجلجلة وهم وقوف على أقدامهم حتى اندلاع نور الفجر، وفي الهند كان المستمعون قد حنوا رؤوسهم تقديراً واحتراماً وإجلالاً، ولعلك تطرب إذا عرفت قصة الفلاح الأوغندي البسيط مع الشيخ عبد الباسط حين أطربته قراءته فأهدى له بقرته الوحيدة وهي مصدر زاده وقوت يومه، فردهّا الشيخ عليه شاكراً ومقراً بفضله وكرمه الحاتمي. وقد اهتم به الباحثون المسيحيون فوقف أحدهم رسالة الدكتوراه على دراسة صوت الشيخ المجلجل المؤثر المقعقع.
يا قارئ القرآن داو قلوبنا
بتلاوة تزدان بالتجويد
اقرأ فأمتنا ترقع ثوبها
بالوهم تخفض رأسها ليهودي
اقرأ لعل الله يوقظ غافلا
من قومنا ويلين قلب عنيد
اقرأ ليرجع ظالم عن ظلمه
ويقر بالإيمان كل جحود
اقرأ ليسكت مطرب مترنح
قتل الحياء على رنين العود
ذبحوا مشاعرنا بكل قصيـدة
مسكونة بخيال كل بليد
اقرأ ليهدأ فلب كل مروع
من قومنا وفؤاد كل شريد
وعودًا على بدء دخل الشيخ عالم الإذاعة المصرية العربية عام 1951م بإشارة ووساطة وإلحاح من الشيخ الضباع، فأول ما قرأ آيات كريمات من سورة فاطر، ثم عين قارئًا لمسجد الإمام الشافعي ثم لمسجد الإمام الحسين.
يحكي لنا التاريخ أنه ترك إرثًا كبيرًا للإذاعة، كما حدث هنا في المملكة العربية السعودية حيث طلب منه القائمون عليها بتسجيل له يبث بصوته الرعدي القوي فوافق ولم يتردد، وترك تسجيلات حدثت في الحرمين الشريفين مكة والمدينة، لقب بعدهما «بصوت مكة»، إضافة إلى ذلك ترك للإذاعة العربية عامةً مصحفين مرتل ومجود، ومصاحف مرتلة لبلدان عربية وإسلامية، ومثل ذلك حينما زار الكويت في الستينات والسبعينات وترك للتلفاز الكويتي كمًا جميلًا فيه تلاوات رائعة مبهرة.
وقد عاش الشيخ عبد الباسط عبد الصمد نصف قرن يعلوه عقد من السنين متربعًا على عرش قراءة القرآن الكريم والتغني به، جاد به الزمان وعقم عن مثله الأوان، دخل عالم عظماء القراء، وأخذ منزلته في الصدارة، فهو كروان الجنة صاحب الحنجرة الذهبية وأشهر قارئ مصري في مسقطه والعالم العربي كله.
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
تقول لنا نفائس الكتب: فرحت به الإذاعة كثيرًا فطربت ثم رقصت فقد زاد إقبال الناس على شراء أجهزة الراديو، وماجت بها معظم الأقطار والمدن والقرى في مصر وفي غيرها من داخلها وخارجها، وانتشرت ليسمع الناس مزامير آل داوود في صوت عبد الباسط عبد الصمد -بسط الله له الرحمة- خاصةً في يوم السبت على موجات البرنامج العام من الساعة الثامنة وحتى الثامنة والنصف، وكان الفلاح المصري البسيط الذي يملك مذياعًا يقوم برفع صوته إلى أعلى درجة ممكنة ليتذوق الجيران حلاوة القرآن وطلاوته من قراءة قارئ القبلتين وعاشق القرآن كما كان يُلقب، وتحكي هذه النفائس أن والدته -عليها الرحمة والغفران- كانت تعشق صوت ابنها حتى الثمالة، فتقوم بتبخير الراديو في يوم قراءته خوفًا عليه من عين عائن أو حسد حاسد، لعذوبة صوته رفعًا وخفضًا فهو ملك التلاوة في القرن العشرين.
ولهذا أثر في مستمعيه في أصقاع العالم أجمع، فهو صوت ذهبي تقشعر له الأبدان عند سماعه، لأنه تميز بالخشوع في التلاوة، وكأن القرآن يدندن في قلبه قبل أن يصل لحنجرته ويتلفظ به لسانه، فكان يخترق قلوب مستمعيه بشكل سحري مذهل؛ ولهذا أحبه الناس جميعًا فهو مؤسس وصاحب مدرسة عريقة في تلاوة القرآن والترنم به، بل كان يقيم حروفه، ويحد حدوده في أخلاقه الحسنة، ولطالما روى الناس قلوبهم بسماع سورة يوسف ومريم وآل عمران كذلك قصار السور مثل: (الشمس)، وفي حفلاتهم وأفراحهم فحدث عن الشيخ ولا حرج، فقد كانت التلاوات تأخذ بمجامع القلوب والألباب، فقد جاد عليه المولى -جل في علاه- بجمال صورتين وهي الخلقة والصوت، وقد وصفه الواصفون بأنه قد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود -عليه السلام- وقصة هذه المزامير كما حكتها كتب التراجم والسير أن فضل الله سبحانه على سيدنا داود -عليه السلام- كان كبيرًا، فقد أعطى حسن الصوت، وحينما كان يصدح بصوته الجميل ويسبح الله تعالى ويحمده كانت الجبال والطير تسبح معه، ومزامير آل داود هي تسابيح لله وضروب دعاء.
وقد شبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حسن صوت داود وجمال نغمته بصوت المزمار، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابي الجليل، أبي موسى الأشعري حينما هزج بصوته الرقراق في جنح الليل يقرأ آيات من الذكر الحكيم، فسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: (لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود).
يقول الإمام النوري -رحمه الله تعالى- قال العلماء المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن، وأصل الزمر الغناء.
آل داود هو داود نفسه، وكان داود -عليه السلام- حسن الصوت جدًا، وأما الحافظ بن حجر فيقول في فتح الباري: والمراد بالمزمار الصوت الحسن وأصله الآلة، فأطلق اسمه على الصوت للمشابهة.
والعجيب في الأمر أن عاشق القرآن وكروان الجنة كان لا يستخدم أي مؤثرات صوتية، مما هيأ الله له بصوته الذهبي سماع الناس له وتلذذهم بنبراته الصوتية الفريدة، حيث جاء صوته عذبًا كصوت أمواج السماء، بهيًا منتشيًا بكلمات الله، وكانت مدرجات كرة القدم تفتح لقراءته لكثرة استماع الناس وأعدادهم المهولة، كما حدث ذلك في الهند في جلسة قرآنية عذبة شرفتها رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي لتشنف مسمعيها بذلك النهر القرآني الجاري المنثال من هذا المصري البسيط.
الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد صوت مدوٍ عميق، إن كنت مهمومًا عرج بك إلى آمال السماء وإن كنت حزنًا أفرحك بكنوز الأرض، إن قرأ عن الجنة شوقك، وإن قرأ عن النار وعذاب القبر اقشعرت أوصالك، علمه كعلم القرآن، وأدبه كأدب القرآن، وقد كان متأسيًا ببشير الأمة ونذيرها محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال فيه رب العالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا).
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً
وما ضقت عن آي به وعظات
ولكل قصة نهاية، ولكل كتاب ختمة، ولكل سفور حجاب وستر، جاءت وفاته في جنازة مهيبة حضرها كبار الناس وصغارهم ورؤساء الدول ومرؤوسيها -رحمه الله- وأسكنه فسيح الفراديس.
- - - - - - - - -
مادة الكتاب مستقاة من:
صور في ذكرى رحيل كروان الجنة 24 - 11 - 2017.
- ماذا قال القراء عن عبد الباسط عبد الصمد من مزامير آل داود 30 - 11 - 2020
- اليوم السابع، وقفات في حق شيخنا كثيرة. اكتفي بتاريخ اثنين منها، وعليك يا هُمام باقيها.
14 - 4 - 2024/ 30 - 11 - 2023
ومواقع إلكترونية أخرى فانظر فيها إن شئت.
** **
حنان بنت عبد العزيز آل سيف -بنت الأعشى-
hanan.alsaif@hotmail.com