هادي بن شرجاب المحامض
في سماءٍ يزداد ازدحامها يومًا بعد يوم، لا يزال الطيار السعودي يحلّق بثقة وعلم، حاملاً في روحه إرثًا من الشغف والانضباط والابتكار. وما يميّز الكفاءات السعودية في قطاع الطيران اليوم ليس فقط قدرتهم على قيادة الطائرات بأمان، بل مقدرتهم أيضًا على قراءة تحديات المستقبل، وتحليل المخاطر، ووضع خارطة طريق تحفظ الأرواح وتحمي الأجواء.
المقدم طيار/ سلطان بن صالح بن ريفان السلوم – الحاصل على درجة الماجستير في إدارة الأزمات والكوارث – قدم دراسة علمية نوعية، بعنوان: «الحوادث الجوية تدق ناقوس الخطر: دعوة لإعادة بناء معايير السلامة العالمية».
دراسة لم تُكتب داخل قاعات جامعية معزولة عن الواقع، بل انبثقت من قلب التجربة الميدانية، ومن وعي عميق بتفاصيل الطيران، ومتابعة دقيقة لمجريات الحوادث الجوية، وتحليل دقيق لأسبابها، ودعوة لإعادة النظر في البنية العالمية لأنظمة السلامة. هذا العمل المتكامل يترجم احترافية الباحث، ويُجسد مزيجًا بين التحليق في السماء والنفاذ في عمق الأزمات.
منذ بداية يناير 2024 حتى نهايته في يناير 2025، وثّق الباحث تسجيل 28 حادثة جوية أودت بحياة 318 شخصًا من الركاب وأفراد الطواقم، في حصيلة هي الأثقل منذ سبع سنوات. لكن الأرقام وحدها لم تكن هدف الدراسة، بل وسيلة لكشف ثغرات عميقة في المنظومة الدولية للسلامة الجوية، ومؤشرًا مقلقًا على أن شيئًا كبيرًا يحتاج إلى إصلاح.
السلوم لم يُلقِ اللوم على جهة واحدة، بل قدّم تحليلًا شفافًا لحزمة من الأسباب المتداخلة، ووزعها بدقة على خمسة محاور رئيسية: الأخطاء البشرية (29 %)، الأعطال الفنية (43 %)، الأحوال الجوية السيئة (18 %)، الاصطدام بعوائق (4 %)، وأسباب غامضة (6 %)، مبينًا كيف تتفاعل هذه العوامل وتُضاعف من خطر الحوادث، خاصة حين تقترن بالإجهاد البشري، ضعف التدريب، أو تآكل الجاهزية التقنية.
وما يُميز هذا البحث، أنه لم يكتفِ بتوصيف المشكلة، بل مضى نحو الحلول. فقدم الباحث رؤية استباقية ترتكز على تسخير التكنولوجيا، ورفع كفاءة التدريب، وتحديث البنية التنظيمية، وتعزيز ثقافة السلامة داخل الشركات. كما دعا إلى تبنّي برامج صيانة تنبؤية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وإنشاء مراكز صيانة إقليمية مجهزة بأحدث التقنيات، وتطوير منظومات التنبؤ الجوي باستخدام تقنيات البيانات الضخمة. ولم يغفل عن أهمية تحسين برامج تأهيل الطيارين – مدنيين وعسكريين – عبر تقنيات الواقع الافتراضي، ورفع قدراتهم في اتخاذ القرار تحت الضغط.
وفي خضم كل هذه التوصيات، يبرز هاجس الباحث الإنساني: الحفاظ على الأرواح، وتقليص الكوارث، وتجنّب الحزن قبل أن يحدث. فهذه الدراسة ليست مجرد مشروع أكاديمي، بل نداء ينبع من قلب طيّار ميداني يدرك أن كل خطأ في السماء لا مجال لتصحيحه بعد فوات الأوان.