عبدالرحمن الحبيب
لعله من البديهي أن تتوجه المؤسسات والشركات الكبرى إلى اعتماد التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لأنه سيحسن من العمل، لكن هل إحلاله محل الجهد البشري أفضل للعمل وزيادة الإنتاجية؟ البعض يؤكد أن الإنتاجية ستزيد بهذا الإحلال بدءًا من توليد الأفكار وصولًا إلى أتمتة المهام الروتينية؛ بينما يرى آخرون أن هذا العمل وحده لا يكفي بل قد يؤدي إلى العكس ما لم تكن بمشاركة وسيطرة البشر، فالسعي وراء الذكاء الاصطناعي دون التركيز المتساوي على الأفراد يؤدي إلى نتائج مخيبة للآمال ومخاطر تنظيمية إضافية؛ فماذا يقول المختصون وما هي نتائج الدراسات في ذلك؟
يقول إريك برينجولفسون مدير مختبر الاقتصاد الرقمي بجامعة ستانفورد: «التكنولوجيا المذهلة وحدها لا تكفي، ما تحتاجه حقًا هو تحديث عمليات أعمالك، وإعادة تأهيل كوادرك، وأحيانًا حتى تغيير نموذج عملك وتنظيمك بشكل جذري»؛ كذلك يشير التوجه العام للدراسات إلى أن أساس النجاح هو المشاركة بين الذكاء الاصطناعي والبشري، والأهم هو دعم الموظفين وتدريبهم بشكل سليم مع التطورات التكنولوجية، فهذه التطورات تعمل بشكل أفضل عندما تُكمل الجهد البشري، وليس عندما تحل محله.
في دراسة مبكرة أُجريت عام 2002 على شركات أمريكية، وجد الاقتصاديون أن استخدام تكنولوجيا المعلومات كان له تأثير ضئيل على الإنتاجية ما لم تُعِد الشركات تنظيم عملها وترفع مهارات موظفيها في الوقت نفسه، لأن الشركات التي أدخلت الحواسيب إلى جانب تغييرات مُكمّلة - مثل لامركزية اتخاذ القرار وتوسيع مسؤوليات العمال - حققت مكاسب حقيقية، بينما لم تحقق الشركات التي طبقت التكنولوجيا دون هذا الابتكار التنظيمي سوى فوائد ضئيلة (Gallup Blog, 2025).
صحيح أن الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في أعمال عديدة خاصة تمييز الأنماط والتنبؤ، لكن البشر هم من يُوفّرون السياق والحدس والأخلاق، وتحقيق أقوى النتائج عندما يُتقن كلٌّ منهما عمله؛ كما توضح إحدى الدراسات (غالوب، كريستوس ماكريديس 2025) التي أظهرت مثلاً أن الذكاء الاصطناعي تولّى إعداد المسودات الأولى في الكتابة، مما أتاح للموظفين التركيز على التحرير ذي القيمة الأعلى وتطوير الأفكار، كما وجدت دراسة أُجريت عام 2002 باستخدام بيانات غالوب فوائد مماثلة للموظفين: كان للابتكار التكنولوجي تأثير إيجابي على رفاهية العاملين، ولكن هذا التأثير كان بشكل رئيس من الموظفين الذين يقولون إن رئيسهم يخلق بيئة عمل قائمة على الثقة.
إذن، السؤال: كيف يمكن لقادة الأعمال استخدام الذكاء الاصطناعي للارتقاء بما يجيده الموظفون؟ تقدم مؤسسة غالوب ما تطرحه بعض الشركات الناجحة كدليل يمكن اختصارها في عدة نقاط أهمها الاستثمار في المهارات والتدريب وتنمية مهارات التطوير؛ فإلى جانب المهارات المحددة، تستفيد المؤسسات عندما يُطور الموظفون المثابرة والقدرة على الصمود. وتُظهر أبحاث أخرى أن العاملين في وظائف تتطلب مثابرة فكرية أكبر - أي العزيمة والطموح - يتمتعون بحماية أفضل من الاضطرابات الكبرى، حتى مع مراعاة مستويات المهارة والتعليم، فالقادة الذين يُنمذجون ويُشجعون التعلم والتحسين المستمر يُسهمون في خلق بيئة عمل تُعزز فيها التكنولوجيا الأفراد بدلًا من تهميشهم.
هناك أيضاً، أهمية إعادة تصميم الوظائف وسير العمل لدعم التعاون بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، لأن مجرد إضافة الذكاء الاصطناعي إلى العمليات الحالية غالبًا ما يُؤدي إلى مكاسب صغيرة؛ فلرؤية تحسينات ملموسة، ينبغي على المؤسسات إعادة النظر في كيفية إنجاز العمل. دع الذكاء الاصطناعي يتولى المهام المتكررة والمليئة بالبيانات، واسمح للموظفين بالتركيز على ما يجيدونه: الإبداع، وحل المشكلات المعقدة، والتواصل الشخصي، واتخاذ القرارات الدقيقة؛ على سبيل المثال، تستخدم العديد من البنوك الآن الذكاء الاصطناعي لمعالجة أوراق القروض، مما يتيح للمصرفيين قضاء المزيد من الوقت في تقديم المشورة للعملاء.
من المهم أيضا أن تعزز ثقافة الفضول، فالذكاء الاصطناعي موجود لمساعدة الموظفين، وليس لتقليص عددهم، وذلك بإشراك الموظفين مبكرًا وسؤالهم عن كيفية تحسين الذكاء الاصطناعي لعملهم وللشركة ككل، فعندما يُسهم الموظفون في تشكيل أدوات الذكاء الاصطناعي، يزداد احتمال دعمهم لها واستخدامها، فنجاح أي مبادرة للذكاء الاصطناعي يعتمد على الأفراد، بدءًا من شعور الموظفين بأن الإدارة تُهيئ بيئة عمل موثوقة وآمنة للتجربة.
الخلاصة أن نجاح أي مبادرة للذكاء الاصطناعي يعتمد على الأشخاص، بدءًا من شعور الموظفين بأن الإدارة تخلق بيئة عمل قائمة على الثقة وآمنة للتجربة، ففي حين أنه يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في المهام وتوليد الأفكار، وأحيانًا يلعب دورًا في التحقق من صحة النتائج، فإن البشر لديهم ميزة تنافسية في التواصل مع العملاء من خلال التعاطف، وتطبيق الإبداع لتشكيل واستخدام الأفكار التي يقودها الذكاء الاصطناعي، وتطوير مهام المستقبل.. ورغم أن التركيز على الأفراد قد يبدو مُبطئًا للنتائج الأولية لصالح مواجهة المشكلات التنظيمية الهيكلية في البداية، إلا أنه يُمهّد الطريق لتقدم حقيقي ودائم.