م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1- هناك طريق سريع بعدة مسارات يربط ما بين العقل والمشاعر، تتدفق من خلاله الرسائل والمعلومات والتوجيهات بانسيابية في كلا الاتجاهين.. وكلما زاد تبادل الرسائل بينهما كلما كانت العلاقة بين العقل والمشاعر أقوى تواصلاً وأكثر توازناً واستقراراً بعيداً عن فورات المشاعر الفجائية والأفكار الشاطحة.. وهنا تبرز ظاهرة «الذكاء العاطفي» وهو ذكاء يقوم على مكونين: الأول الوعي بالذات، والثاني الوعي المجتمعي، وهذا لا يتحقق إلا بوجود رابط قوي ما بين العقل والمشاعر.
2- سعة هذا الطريق السريع وتعدد مساراته وسهولة تدفق الرسائل فيه تعتبر دلالة على مرونة العقل وصلابة المشاعر.. كما تعني كفاءة العقل واستقرار الحالة النفسية للإنسان، وقدرته على العمل في خلق مسارات اتصال جديدة تُجَوِّد من أداء «الذكاء العاطفي» لديه، الذي هو الأداة التي يتحكم الإنسان من خلالها بوعيه الذاتي وإدارته، كما يتحكم بوعيه الاجتماعي وإدارة علاقاته.
3- هذا الطريق الرابط بين العقل والمشاعر يلعب دوراً مهماً وحاسماً في الوعي بالذات وإدراك ماهيتها ورغباتها وقدراتها وطموحاتها.. وقد يبدو هذا الأمر ساذجاً في البداية، فمن الذي لا يعرف نفسه؟! والحقيقة أن الغالبية العظمى من البشر لا يعرفون أنفسهم مهما ادَّعوا.. لذلك يولد الفرد منا ويعيش عشرات السنين وهو في جهل مطبق بذاته، والسبب أن الطريق الرابط بين عقله ومشاعره هو طريق ترابي ضيق مليء بالمطبات والعوائق.
4- الوعي بالذات لا يعني معرفة أننا نحب لحم الغنم مثلاً أكثر من لحم الدجاج، أو شرب اللبن أكثر من شرب الكولا ... إلخ، فالأمر أعمق من ذلك بكثير.. وهو أمر لا يتم فوراً أو سريعاً أو بسهولة، فمعرفتنا بذاتنا الداخلية وذاتنا الخارجية رحلة قد تمتد العمر كله.. وهي معرفة يخطوها الإنسان خطوة خطوة بتأن وفهم واستيعاب، وهي رحلة كلما تقدم فيها الإنسان يشعر بأنه أصبح أكثر قوة وصلابة وارتياحاً وطمأنينة.
5- حتى نرتقي بوعينا الذاتي وترتفع قدرتنا على إدارته، علينا أن ننتبه لمحددات وسلوكيات لا نفطن لها في العادة رغم تأثيرها الحاسم في ذلك الوعي، من ذلك: ألا نبسط مشاعرنا ونسطِّحها على أنها مشاعر إيجابية أو سلبية فقط ونكتفي بذلك، بل لا بد من سبر غورها لمواجهتها.. أن نلتفت لمشاعرنا ونقيس أثرها على أعصابنا ومزاجنا وردات فعلنا تجاهها.. ألا نتجنب ما يزعجنا أو ننغمس فيما يلذ لنا ويمتعنا فقط، بل علينا تحديد مصادر مشاعرنا السلبية والإيجابية على حد سواء والتعامل معها بجد وحزم.. أن نعيش اللحظة فلا نترك للماضي أن يتحكم في مشاعرنا ولا نسمح للمستقبل أن يوجه قلقنا.. أن نسأل أنفسنا أمام كل تصرف نفعله لماذا فعلناه.. أن نكتشف ذاتنا وقدراتنا تحت وطأة الضغوط.. أن نستفيد من الآخرين كمرآة لنا نرى من خلالهم أنفسنا ونُقَيِّم سلوكياتنا الناتجة عن وعينا الذاتي.. ألا نقع أسرى للمزاج الجيد أو السيئ، بل علينا العودة إلى الأصل الذي أحدث ذلك المزاج وأثار تلك المشاعر فنحلله ونفهمه، فهذا يزيد من قوة وعمق وعينا الذاتي.
6- إذا كان «الوعي بالذات» يحصُل من خلال النظر إلى الداخل وتفحصه وسبر أغواره ومعرفة محفزاته ودوافعه وتحديد احتياجاته ورغباته، فإن «الوعي الاجتماعي» يتم بالنظر إلى الخارج وتَفَحُّص المحيط من أشخاص وأشياء وأحداث، ومحاولة معرفة تفاصيلها ومعانيها وتأثيرها والمؤثرات عليها، وذلك للتعامل معها بالشكل الصحيح السليم الذي يضمن الاستفادة والسلامة وإحداث التأثير الإيجابي المرغوب.
7- «الوعي الاجتماعي» هو القدرة على فهم مشاعر الآخرين، ومن ثم القدرة على التآلف والتعاطف مع تلك المشاعر بالتعامل معها في لحظتها وأوانها.. ويعني مهارة الرقابة، ليس الرقابة المترصدة العدوانية، بل الرقابة الحانية التي يمكنها رؤية الحالات الإنسانية التي يمر بها الآخرون والتعامل معها بالشكل الذي -على الأقل- يترك أثراً إيجابياً في نفسية ذلك الآخر.. الوعي الاجتماعي يعني مهارة قراءة طبقة الصوت وملامح الوجه وحركات الجسد وظروف الموقف، فتعرف من خلالها ما خفي تحت السطح من مشاعر وأفكار كامنة.
8- ما يجعل الوعي الاجتماعي في المتناول هو أن الإنسان هو الإنسان في كل الظروف ومختلف الثقافات عبر القارات.. فالهموم متشابهة، والمشاعر متشابهة، وتعابير الوجه متشابهة، ولغة الجسد متشابهة.. ذلك التشابه الذي يصل إلى حد التطابق يجعل من اكتساب مهارة الوعي الاجتماعي -الذي هو أحد ركني الذكاء العاطفي مع «الوعي بالذات» - أمراً يمكن تطبيقه في أي مكان أو زمان أو بيئة.
9- الوعي الاجتماعي يستدعي وجود حِسٍّ عالٍ تجاه مشاعر الآخرين، ومنظار صافٍ يمكن النظر من خلاله بوضوح، واهتمام كامل بالناس، وشعور إنساني عالٍ تجاه البشر والشجر والحيوان والحجر، وحواس خمس يقظة ترفع من قدرة الحاسة السادسة لدينا فنستفيد من قراءة الملامح والتلميحات وما يبثه الآخرون، وأن تكون لدينا القدرة على أن نضع أنفسنا مكان الآخرين حتى نستطيع أن نحكم ونتعامل على ضوئها.
10- للوعي الاجتماعي مفعول السحر، وقد تطرق إليه أسلافنا بعدة تعابير وأمثال مثل «الكلام الليَّن يغلب الحق البيَّن».. فالوعي الاجتماعي يكون مقروناً بالود، واللطف، والابتسام، والاهتمام، والتبجيل، وإبداء التقدير، والتعاطف، والتجاوب، والردود الإيجابية، والإنصات، والتفهم، والتسامح، والمساعدة، والتشجيع، والدعم، والتحفيز، والمبادرة بتقديم الخدمة، وكل أفعال المروءة والكرم والعطاء هي من أبواب الوعي الاجتماعي.. ومنها أيضاً: أن ندعو الناس بأحب الأسماء لديها، وأن نوقرهم، وننصت بإمعان لما يقولون، وأن نتفهم مواقفهم التي اتخذوها، وأن نلتمس لهم الأعذار والمبررات، وأن نترك لهم الباب موارباً للدخول أو الخروج من أي لحظة أزمة أو مشكلة أو موقف قد يحرجهم.. وأن نتودد لهم ونلاطفهم بالحديث، والتباسط معهم، وأن نتحدث فيما يسعدهم ويسرهم ونبتعد عمَّا يسوؤهم، وأن نختار الوقت الصحيح والمناسب لطلب شيء منهم أو نصحهم.. وأن نضع أنفسنا مكانهم لمعرفة سبب لماذا اتخذوا مواقفهم، وألا نتخذ مواقفنا تجاههم بناءً على رؤيتنا، بل على تصور كامل للقضية، وأن تكون لدينا القدرة على قراءة المزاج العام وتعبير ملامح الوجه وحركات الجسد.
11- المشاعر في تفاعلها تشبه الأمواج المتلاطمة، والتعامل معها بتلقائية بلا معرفة عميقة بالذات يُحَوِّل ذلك التعامل إلى ردات فعل تكون خاطئة غالباً، ثم نتفاجأ بأن تلك المشاعر تطفو على السطح في الوقت الذي لم نكن نتوقع أنها موجودة أصلاً فتربكنا.. لكن معرفتنا بذاتنا ووعينا الاجتماعي يجعلنا نضع كل شعور سواء كان سلبياً أو إيجابياً في مكانه الصحيح، وهنا لن يظهر لنا هذا الشعور في الوقت الخطأ والمكان الخطأ، فيصبح ضرر ردة فعلنا تجاهها مؤذياً للنفس وللآخرين.