هادي بن شرجاب المحامض
في كل عام عندما تفتح مكة أبوابها لملايين القادمين من أطراف الأرض، تبدأ السعودية فصلاً جديدًا في كتاب الخدمة، ليس كدولة تؤدي واجبًا، بل كأمة تحتضن رسالة. لا شيء يشبه الحج، لا في عدده، ولا في قدسيته، ولا في تعقيده. ومع ذلك، تمضي المملكة العربية السعودية بكل هدوء، لتصنع من هذا الحشد المعجز مشهدًا منظمًا، يشبه الإلهام أكثر مما يشبه الإدارة. فحين يقف الملايين بلباسٍ واحد، وتذوب الفروق بين الجنسيات والطبقات واللغات، تتجلى الدولة لا بصورتها السياسية، بل بوجهها الإنساني، الذي قرر منذ عقود أن خدمة الحاج هي أسمى مهمة وأطهر شرف.
منذ لحظة دخول الحاج إلى أرض المملكة، تبدأ الرحلة المختلفة. لا إجراءات مرهقة، ولا تعامل بيروقراطي، بل ترحيب ناعم، ومسارات دقيقة، وتقنيات تُسخّر لتيسير الشعيرة لا لتعقيدها. بطاقة ذكية تحمل كل بياناته، تطبيق يرشد خطواته، حافلة تعرف طريقها دون أن يسأل، ورجال ونساء يعملون بلا كلل كأن كل حاج هو ضيفهم الشخصي. لا أحد في هذا المشهد يعلو فوق الآخر، لا بماله، ولا بمنصبه، ولا بجنسيته، لأن المملكة رسمت للحج خريطة لا تعترف بالتمييز، بل تُدار فيها الكرامة كأنها قانون مقدس.
في عرفة، عند الجمرات، في الأنفاق، على مداخل المخيمات، ينتشر رجال الأمن، وأفراد الدفاع المدني، وأطقم الإسعاف، ومئات المتطوعين، ليسوا مجرد موظفين يؤدون مهامهم، بل خُدّام لقوافل الله، يرشّون الماء على الوجوه العطشى، ويحملون كبار السن، ويبتسمون للضالين، ويوجهون التائهين بلغة يفهمها القلب قبل اللسان. وحين تقع أزمة، لا يُرفع الصوت، بل تُفعل الخطة، لأن كل احتمال مدروس، وكل خطر محسوب، وكل ثانية لها معنى.
والصحة هنا ليست طوارئ استجابة، بل حالة دائمة من الجاهزية، من المستشفيات المنتشرة في كل مشعر، إلى الفرق الطبية الراجلة، إلى الرصد الوبائي الفوري، إلى غرف عمليات تدير الملايين كما تُدار خلية واحدة. حتى في أقسى الظروف، حين واجه العالم جائحة كورونا، كانت السعودية أول من أعاد الحجاج إلى المشاعر بأمان، في تجربة استثنائية أدهشت الكل، لأنها جمعت بين التنظيم الصارم والرحمة العميقة، بين حماية الروح وحماية الجسد.
ومع رؤية المملكة 2030، تحوّل الحج إلى تجربة رقمية شاملة، لا تتصادم مع الروح، بل تعززها. الذكاء الاصطناعي بات يرصد الزحام قبل أن يُولد، والطائرات المسيّرة تتابع الحشود بدقة، والتطبيقات الذكية تترجم وتوجه وتطمئن، لتتحوّل شعائر الأمس إلى مشهد من المستقبل، دون أن تفقد شيئًا من قدسيتها أو سكينتها. كل هذا يُدار في وقت واحد، في رقعة جغرافية محدودة، وسط حرارة قاسية، وضغط بشري هائل، دون أن يشعر الحاج بأنه وسط أزمة، بل وسط كرم.
وحين نتأمل هذه المنظومة المتكاملة، لا بد أن نقرأ ما هو أعمق من الصورة: السعودية لا تقدّم خدمة، بل تصنع قداسة. لا تتعامل مع الحج كحدث سنوي، بل كمؤسسة متكاملة، فيها القيادة تُشرف، والحكومة تُنفذ، والمواطن يُشارك، والمتطوع يُبادر، والروح تُظلل كل شيء. لم يكن الملك عبد العزيز - رحمه الله - حين قال إن «خدمة الحرمين شرف لا يعلوه شرف»، يتحدث عن شعار، بل عن هوية، وعن إرث تتوارثه القيادة جيلًا بعد جيل.
وهكذا، لا يعود الحاج إلى بلده فقط وقد أدّى الفريضة، بل يعود وهو يحمل في قلبه مشهدًا إنسانيًا نادرًا: دولة تعمل كخادم أمين، لا كمتفضل متعال، تدير الملايين دون فوضى، وتحفظ الكرامات دون مِنّة، وتقدّم صورة الإسلام في أبهى تجلياته العملية: الرحمة، والتنظيم، والاحترام. إنها السعودية، حين تخدم الحاج، فإنها لا تُظهر قوتها فقط، بل تُظهر معدنها، جوهرها، رسالتها. وحين تغادر الجموع مكة والمدينة، وتخلو الطرقات، يبقى في المكان عبق عظيم، ليس فقط من التلبية والدموع والدعاء، بل من آثار دولة أدّت أمانتها بأمان، وكتبت فصلًا جديدًا في سِفر السيادة بخدمة الإنسان.