عبدالرحمن الحبيب
أصبح لدى الذكاء الاصطناعي نصيبه من السباق قد يفوق سباق التسلح النووي بين القوى العظمى، فما بين الولايات المتحدة والصين من تنافس تكنولوجي صار مقياساً لمن سيتفوق على الآخر ليصبح الأقوى عالمياً، ورغم أن الولايات المتحدة رائدة في أبحاث الذكاء الاصطناعي والابتكار فيه، إلا أن الاستثمارات المُوجَّهة والجهود الاستراتيجية الصينية تُضعِف هذه الصدارة بسرعة حسب رأي البعض، بينما آخرون مثل مؤسسة راند الأمريكية ترى أن النماذج الصينية تُقلّص الفجوة ببعض المعايير الحوسبية، إلا أن الولايات المتحدة تحتفظ بميزة في إجمالي سعة الحوسبة، لأنها تمتلك رقاقات ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا بكثير، فما هو المتوقع للمستقبل القريب؟
في الأيام الأولى لإدارة ترامب، أعلن عن إنشاء مجلس مستشاري الرئيس للعلوم والتكنولوجيا، جاء فيه: «إن تحقيق هيمنة تكنولوجية عالمية لا جدال فيها ولا تحدٍّ والحفاظ عليها ضرورةٌ ملحةٌ للأمن القومي للولايات المتحدة»؛ بعدها بأيام في فبراير الماضي، أذهلت شركة ديب سيك DeepSeek الصينية الناشئة العالم وأثارت ضجة بأسواق الأسهم عند إطلاقها ديب سيك R1، وهو نموذج ذكاء اصطناعي توليدي مفتوح، ينافس أحدث العروض الأمريكية، بتكلفة زهيدة، وقد وصف مارك أندريسن، المستثمر التكنولوجي المؤثر، هذا النموذج بأنه «أحد أكثر الإنجازات المذهلة والمثيرة للإعجاب» التي شهدها على الإطلاق، بينما قال الرئيس الأمريكي ترامب إنه بمثابة «جرس إنذار».
حينها كتب الباحثان بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي مات شيهان وسكوت سينجر أن هذا النجاح الاستثنائي لديب سيك أثار مخاوف بأوساط الأمن القومي الأمريكي من أن منتجات الذكاء الاصطناعي الأكثر تطورًا بالولايات المتحدة قد لا تتمكن من منافسة البدائل الصينية الأرخص؛ فإذا تحقق هذا الخوف، ومع ازدياد قوة هذه الأنظمة، فإنها تمتلك القدرة على إعادة رسم معالم القوة العالمية بطرق لم نكن لنتخيلها، لأن أي دولة تبني أفضل النماذج وأكثرها استخدامًا ستجني ثمارها على اقتصادها وأمنها القومي ونفوذها العالمي.
إذا هيمنت الصين على اقتصاد القرن الحادي والعشرين، فستحظى سياستها الصناعية بقدر كبير من الثقة حسبما يطرح تقرير مجلة الإيكونيميست الذي أوضح أن جهود الصين لتنمية صناعات جديدة، وتحفيز الفائزين، وتعزيز التقدم التكنولوجي، تثير رهبة وغضب المراقبين الخارجيين [الغرب]. هذه الرهبة جعلت كايل تشان من جامعة برينستون يقارن سياسات الصين بمشروع مانهاتن، الذي اخترع القنبلة الذرية، مجادلاً بأنه في ظل الاتجاهات الحالية، فإن «معركة التفوق» بمجال الذكاء الاصطناعي لن تكون بين أمريكا والصين، بل بين المدن الصينية الرائدة مثل هانغتشو وشنتشن.
قد يسخر المسؤولون الأمريكيون من هذه المزاعم، لكنهم لا يشككون بقدرة الصين على تحريف الأسواق كما يقول تقرير الإيكونيميست، ففي مارس أصدر الممثل التجاري الأمريكي تقريرًا ينتقد «التوجيهات والموارد والدعم التنظيمي» الذي تمنحه حكومة الصين للصناعات المفضلة، على حساب المنافسين الأجانب، واصفاً خطة «صنع في الصين 2025»، التي زادت من حصة البلاد من صناعات مثل الطائرات بدون طيار والمركبات الكهربائية، بأنها «بعيدة المدى وضارة»؛ فمثل هذه الشكاوى تساعد في تفسير سبب قيام الرئيس ترامب بفرض رسوم جمركية عقابية على الصين في أبريل.
حسب تقرير مؤسسة راند الأمريكية فإن إدارتي ترامب وبايدن اتخذتا خطوات رئيسية لمنافسة الذكاء الاصطناعي مثل تقييد بعض الصادرات التكنولوجية، إلا أن التقرير ينبه أنه «للبقاء في الطليعة، يجب على الحكومة الأمريكية الآن بناء القدرة على التحرك بسرعة عند تعزيز ضوابط التصدير مع تطوير فهمٍ أوضح لتأثيرها الفعلي. بدلاً من الأمل في منع التكافؤ المؤقت في النماذج، ينبغي أن تستفيد الاستراتيجية الأمريكية من ميزة الحوسبة الكبيرة لديها لتحويل الاقتصاد الأوسع وترسيخ الريادة في نشر الذكاء الاصطناعي عالميًا.» ويخلص التقرير إلى أن الصين قد تحقق نماذج ذكاء اصطناعي فردية تنافسية هذا العام، لكن هذه الفجوة المعيارية الضيقة ليست دائمة ولا حاسمة استراتيجيًا؛ وستواصل الصين الترويج للاختراقات لزعزعة ثقة الولايات المتحدة، لكن تشتيت الانتباه والتخلي عن ميزة الحوسبة الأساسية لأمريكا سيكون خطأً فادحًا.
لكي تحافظ الولايات المتحدة على الصدارة، يجب عليها إعطاء الأولوية للابتكار وتطوير الذكاء الاصطناعي المفتوح وتطوير نظامها البيئي الخاص بالذكاء الاصطناعي حسبما خلص إليه تقرير مؤسسة AFCEA الأمريكية الذي يختم بأن سباق الذكاء الاصطناعي يتجاوز مجرد منافسة بين الولايات المتحدة والصين، إذ يُمثل قضية عالمية، فمن خلال التعاون، نستطيع الاستفادة من الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي، مع تقليل مخاطرة إلى أدنى حد، وضمان استخدامه كقوة خير للعالم.
حسناً، بسؤال الذكاء الاصطناعي ذاته كانت الإجابة: حاليًا، إما أن الصين متأخرة عن الولايات المتحدة أو لا تتقدم عليها بوضوح في أيٍّ من هذه الركائز؛ ومن المرجح أن تشتد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين بمجال الذكاء الاصطناعي، فقد تحتل صناعة الذكاء الاصطناعي الصينية المرتبة الثانية عالميًا بفارق ضئيل عن الولايات المتحدة، وقد تتفوق نماذج الذكاء الاصطناعي الصينية على الولايات المتحدة في بعض الأحيان أو في بعض القطاعات.
يستعر سباق الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين إلا أن مستقبله يظل غامضاً بعض الشيء ما لم تتزايد مفاجآت الصين مثل ديب سيك.