الرياض مدينة عريقة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، وتعد من أقدم المدن في وسط الجزيرة العربية، وتتميز باستمرار الاستيطان والعمران فيها عبر العصور، رغم تقلبات الزمان وعواديه، ولعل وفرة مصادرها المائية من العيون والآبار والأودية، وتنوع مواردها الاقتصادية، وحصانة موقعها الطبيعي، وفَّر لها خاصية الاستدامة عبر العصور.
وفي هذه المقالة سوف نتتبع تاريخ وآثار أحد معالم الرياض القديمة، ممثلاً في عين الخضراء وقناتها وشطها، ونحاول تحديد موضعها على خريطة مدينة الرياض الحديثة.
تذكر المصادر التاريخية أن مدينة حجر اليمامة (الرياض) كانت مدينة زراعية خصبة ذات أشجار وعيون ومياه جارية، ومن عيونها عين تسمى الخضراء، ويبدو أن اسمها مشتق من الاسم القديم لمدينة الرياض التي كانت تسمى القرية الخضراء أو خضراء اليمامة أيام طسم وجديس، وهذه العين نسبت فيما بعد إلى الاسم الآخر للمدينة (حَجْر اليمامة) الذي ظهر بعد نزول بني حنيفة بها قبل نحو ألف وستمائة سنة (430م)، فعرفت بعين (خضراء حجر)، (انظر الهمداني، صفة جزيرة العرب، ص 254؛ وابن الفقيه، كتاب البلدان، ص 28)، ولكن هذه العين اندثرت ولا يعرف موضعها الآن على وجه التحديد. وذكرت المصادر التاريخية أيضاً موضعاً آخر له علاقة بهذه العين يدعى (الشط) يقع على الضفة الغربية لوادي الوِتْر (البطحاء) إلى الشمال الشرقي من مركز مدينة حجر وبالقرب منها، والشط وصفها ياقوت الحموي ( معجم البلدان، جـ 2، ص 344) بأنها قرية في حجر، ثم قال:»وقد اكتنفتها حجر اليمامة»، ومعنى اكتنفتها (امتدت إليها واحتوتها بحيث أصبحت جزءاً منها) (ابن منظور، لسان العرب، جـ 9، ص 308)، وقول ياقوت يدل على أن الشط وعين الخضراء كانت ضاحية مجاورة لمدينة حجر ثم امتدت إليها المدينة فأصبحت محلة من محلاتها في الجهة الشمالية الشرقية والشرقية منها.
والشط قامت بجوار عين الخضراء على شط (شفير) وادي الوتر (البطحاء)، في موضع حي الشمسية في الرياض حالياً وما يليه، ولعل الشط يمتد إلى الجنوب مسافة طويلة نسبياً على ضفة وادي البطحاء (الوتر) الغربية، وتغذية المياه المنحدرة من عين الخضراء، ولهذا سمي بالشط، ويرى الباحث خالد السليمان (معجم مدينة الرياض، ص 29) أن الشط يمتد على الطرف الشرقي لمدينة حجر قديماً (الرياض حديثاً) المطل على ضفة وادي البطحاء حتى الموضع المقابل لحي دخنة المعروف في الرياض حالياً (انظر شكل (1)).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرحالة المشهور ابن بطوطة حين زار مدينة حجر اليمامة (الرياض)، سنة 732هـ/1331م، وصفها بقوله:»مدينة حسنة خصبة، ذات أنهار وأشجار، يسكنها طوائف من العرب أكثرهم من بني حنيفة، وهي بلدهم قديماً وأميرهم طفيل بن غانم، وقد سافرت منها في صحبة هذا الأمر برسم الحج» (رحلة ابن بطوطة، ص 280)، ويهمنا هنا قوله: إنها مدينة خصبة ذات أنهار وأشجار، ويقصد بالأنهار المياه الجارية من العيون في بطون الأودية أو في القنوات المائية ومنها عين الخضراء وقناتها.
وعين الخضراء كانت تنطلق منها قناة تمد مزارع حجر الشرقية المنتشرة على ضفة وادي الوتر (البطحاء) بالمياه، وقد ذكر الشيخ حمد الجاسر أنه شاهد آثار قناة مائية تنحدر بمحاذات وادي الوتر (البطحاء)، فقال:» وكانت مدينة حجر تسقى قديماً من العيون، ويشاهد المرء عندما يسير على شفير وادي البطحاء الغربي متجهاً من الرياض إلى منفوحة، يشاهد سلسلة من الكظائم (الخرز) تمتد حتى تصل إلى الروضة الواقعة شمال منفوحة في مفيض الوادي، التي تدعى الآن (الخِضْرِمة)(1)، وقد عددت منها أكثر من ثلاثين خرزة، وهي تمثل مجرى عين قديمة» (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص 20). ومن المرجح أن هذه العين هي عين الخضراء التي ذكرتها المصادر، (انظر الشكل (1)).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أعمال الحفر في الموقع الذي يقوم عليه الآن مبنى البنك المركزي (مؤسسة النقد العربي السعودي قديماً) قد كشف حين حفرت أساساته قبل نحو أربعين عاماً عن آثار منشأة مائية يرجح أنها هي (عين خضراء حجر) التي تنطلق منها القناة (انظر الشكل (2)).
كما أن أعمال الحفر في مشروعات أخرى قامت على حافة وادي البطحاء كشفت عن وجود آثار مجار مائية (قنوات) قديمة، وترسبات طينية وحصوية تدل على نظام ري في المنطقة، ساعد على الزراعة، وأكد ما ورد من معلومات في المصادر التاريخية، ولعل إجراء مزيد من التنقيبات الأثرية على حافة مسار الوادي تكشف عن مزيد من المعلومات والمعالم المطمورة.
ومن خلال هذا العمق التاريخي لمدينة الرياض وتميزها بالخضرة والعيون والقنوات المائية نستطيع القول: إن مشروع الرياض الخضراء الذي يعد أحد أكبر مشاريع التشجير الحضري طموحاً في العالم، والذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، -أيده الله-، بمبادرة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، -حفظه الله-، هو امتداد وإحياء لحجر الخضراء.
حاشية:
(1) هذه الخضرمة في منفوحة وهي تختلف عن مدينة الخضرمة المشهورة في الخرج.
** **
أ.د. فهد بن عبدالعزيز الدامغ - أستاذ الدراسات العليا بقسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية