تشير مساهمة مكونات الناتج المحلي الإجمالي في النمو الاقتصادي في المملكة العربية على أساس سنوي في الفترة الممتدة من عام 2011 حتى أوائل عام 2025، بالأسعار الجارية نمطًا دوريًا واضحًا، خصوصًا خلال فترة جائحة كوفيد-19 وما تبعها من تعافٍ اقتصادي. فقد سجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشًا حادًا في الربع الثاني من عام 2020 بنسبة 23.70- % على أساس سنوي، تزامنًا مع انهيار صادرات النفط وتراجع الاستثمارات الخاصة، مما يعكس أثر الصدمة المزدوجة المتمثلة في انهيار أسعار النفط واضطرابات الجائحة. إلا أن هذا الانكماش تبعه انتعاش قوي بلغ ذروته في الربع الثاني من عام 2021 بنمو قدره 36.96 %، مدفوعًا بتعافي الاستثمارات والصادرات تزامنًا مع ارتفاع أسعار النفط واستئناف النشاط الاقتصادي المحلي.
وفي عام 2022، استمر الزخم الإيجابي للنمو، إلا أن وتيرته تباطأت بشكل ملحوظ، حيث سجل النمو في الربع الثاني 5.03 % فقط، وهو ما يعكس تلاشي أثر الجائحة واستقرار الإنتاج النفطي في إطار التفاهمات داخل تحالف أوبك+. وتُظهر المساهمات خلال هذه الفترة استمرار دور الاستهلاك الخاص والاستثمار كأهم محركات النمو، بينما تراجعت مساهمة صافي الصادرات مقارنة بعام 2021. وقد تسارع التباطؤ الاقتصادي خلال عام 2023، ليصل إلى ذروته في الربع الثالث بانكماش بلغ 12.6- %، مما يعكس حساسية الاقتصاد السعودي للتقلبات الخارجية وتراجع الصادرات في ظل ضعف الطلب العالمي، في حين أبدت مكونات الطلب المحلي بعض الصمود، وإن لم تكن كافية لتعويض الانكماش في مكونات خارجية أخرى مثل التغير في المخزون.
أما في عام 2024، فتُظهر المؤشرات بوادر استقرار اقتصادي نسبي وإن كان بوتيرة نمو منخفضة، إذ سجل الربع الرابع نموًا معتدلاً بلغ 4.11 %، مقارنةً بالانكماش المسجل في الربع الثالث، وذلك بفضل التحسن في الإنفاق المحلي وتراجع الأثر السلبي لصافي الصادرات. ومع ذلك، فإن الانكماش الحاد في الربع الأول من العام ذاته (14.2- %) يسلط الضوء على هشاشة التعافي في ظل استمرار تقلبات أسعار النفط والقيود المحتملة على الإنتاج ضمن إطار أوبك+. ويشير الأداء الضعيف في نهاية الفترة إلى تحول في مصادر النمو بعيدًا عن الصادرات النفطية نحو المحركات المحلية، في إطار مساعي المملكة لتحقيق أهداف رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد، ليرتفع نمو الاستهلاك والاستثمار الخاص إلى 5.19 % في الربع الأول 2025. غير أن هذه المرحلة الانتقالية لا تخلو من مواطن ضعف أمام الصدمات الخارجية وتقلبات الأسواق العالمية.
وبالنظر إلى تكوين رأس المال الثابت الإجمالي، موزعًا بحسب القطاعات (الحكومي، والخاص، وقطاع النفط والغاز) تُظهر البيانات منذ عام 2016 تسارعًا ملحوظًا في تكوين إجمالي رأس المال الثابت، حيث ارتفع من 632 مليار ريال في عام 2016 إلى 1.27 تريليون ريال في عام 2023. ويعود هذا النمو بالدرجة الأولى إلى ارتفاع استثمارات القطاع الخاص، والتي قفزت من 367 مليار ريال إلى 925 مليار ريال في الفترة ذاتها، مما يعكس أثر الإصلاحات الطموحة ضمن رؤية السعودية 2030، الرامية إلى تحفيز النشاط الاقتصادي غير النفطي. في المقابل، شهدت الاستثمارات الحكومية نموًا أكثر اعتدالاً، في حين حافظت استثمارات قطاع النفط والغاز على استقرار نسبي، بما يتماشى مع التوجه الإستراتيجي للمملكة في الحفاظ على الطاقة الإنتاجية من جهة، وتنويع مصادر الطاقة من جهة أخرى.
لكن معدل النمو السنوي لتكوين إجمالي رأس المال الثابت شهد فترات من التقلبات الحادة، خاصة بين عامي 2014 و2020. فقد انكمش في عام 2016 بنسبة 13.7- %، تبعته فترة انكماش أخرى في عام 2020 بنسبة 5.74- %، وذلك في ظل انهيار أسعار النفط وتطبيق سياسات مالية تقشفية. إلا أن معدل النمو سجل انتعاشًا قويًا في عام 2022، بلغ 28.6 %، مدفوعًا بارتفاع الإيرادات النفطية، وزيادة ثقة المستثمرين، وانطلاق عدد من المشاريع الكبرى مثل «نيوم» و«القدية». وعلى الرغم من تباطؤ النمو في عام 2023 إلى 12.9 %، إلا أن القيمة الإجمالية للاستثمار وصلت إلى أعلى مستوياتها التاريخية، وهو ما يعكس انتقال تركيز الدولة من مرحلة التشييد إلى مرحلة التشغيل وتحسين الإنتاجية في مختلف القطاعات.
تتسق هذه الاتجاهات في تكوين رأس المال الثابت مع نمط مساهمة المكونات المختلفة في الناتج المحلي الإجمالي. فقد كان للارتفاع الحاد في الاستثمارات بعد عام 2020 دورٌ بارزٌ في دفع عجلة النمو، خصوصًا خلال ذروته في الربع الثاني من عامي 2021 و2022. ويؤكد تسارع استثمارات القطاع الخاص هذه العلاقة، حيث ساهم بشكل مباشر في النمو المسجل في الاستهلاك والاستثمار الإجمالي. ومع ذلك، فإن تباطؤ معدل نمو الاستثمار في عام 2023 يتماشى مع التراجع الملحوظ في النمو الاقتصادي خلال الربع الثالث من 2023 (12.6- %) والربع الأول من 2024 (14.2- %)، مما يشير إلى أن تأثير الاستثمارات على النمو بدأ يتراجع تدريجيًا، وهو ما يعكس انتقال الاقتصاد السعودي إلى مرحلة تعتمد فيها محركات النمو على عوامل هيكلية طويلة الأجل بدلاً من العوامل الدورية قصيرة الأجل، ضمن مسار تنفيذ أهداف رؤية 2030.
وبينما تكشف مساهمات مكونات الناتج المحلي الإجمالي عن دور محوري للاستثمار، وبوجه خاص تكوين رأس المال الثابت، في دفع النمو الاقتصادي، فإن التتبع التحليلي لهذا الدور لا يكتمل دون فهم انعكاساته المباشرة على سوق العمل، حيث بات من الضروري استكشاف العلاقة بين تدفقات الاستثمار والتحولات في التوظيف، ومعدلات المشاركة، وإنتاجية العمل، بما يعكس عمق التحول الهيكلي الذي يشهده الاقتصاد السعودي في ظل رؤية 2030. فمنذ الربع الأول 2017 وحتى الربع الرابع 2024، شهد سوق العمل توسعًا ملحوظًا، حيث ارتفع عدد العاملين غير السعوديين من نحو 9.36 ملايين في الربع الثالث 2021 إلى 13.62 مليونًا في الربع الرابع 2024، في حين ارتفع عدد العاملين السعوديين من 3.34 ملايين إلى 4.05 ملايين خلال الفترة نفسها. وقد ترافق هذا التوسع في التوظيف مع تراجع حاد في معدل البطالة بين السعوديين من ذروته البالغة 15.45 % في الربع الثاني 2020 إلى 7.0 % بنهاية عام 2024، وهو ما يعكس تحسنًا واضحًا في ظروف سوق العمل وفاعلية السياسات التحفيزية. وتعزِّز هذه الاتجاهات النتائج السابقة المتعلّقة بارتفاع تكوين رأس المال الثابت ومساهمات مكونات الناتج المحلي الإجمالي، مشيرةً إلى أن النمو الاقتصادي المدفوع بالاستثمار بدأ يحقق آثارًا توزيعية ملموسة على سوق العمل.
كما انعكس هذا التوسع الاستثماري في ارتفاع مؤشرات الناتج المحلي خلال الفترة -2021 2022، فقد ترافق أيضًا مع تحسن إنتاجية العمل وازدياداً في مشاركة المرأة، وهو ما يشير إلى أن الاستثمارات لم تكن فقط في رأس المال المادي، بل أسهمت أيضًا في امتصاص العمالة، ما يعد مؤشرًا قويًا على النمو الشامل. وتشير معدلات مشاركة النساء السعوديات في سوق العمل ارتفاعها من 34.5 % في الربع الرابع من 2016 إلى 36.2 % في الربع الرابع من عام 2024، وهو ما يعكس أثر الإصلاحات الهيكلية لرؤية السعودية 2030 التي هدفت إلى تمكين المرأة اقتصاديًا. في المقابل، حافظت نسبة مشاركة الذكور على استقرارها عند مستوى يقارب 66 %، مما يشير إلى أن الزيادة في عرض العمل كانت مدفوعة بشكل رئيس من جانب النساء. وتراجعت معدلات بطالة النساء من ذروتها البالغة 31.4 % في الربع الثاني من 2020 إلى 12.8 % في الربع الثاني من 2024، ثم إلى 11.9 % بنهاية العام، بينما تراجعت بطالة الذكور من 5.87 % في 2016 إلى 4.33 % في 2024، ما يعكس تحسنًا عامًا في قدرة السوق على استيعاب الأيدي العاملة.
وبدمج هذه التحليلات الثلاثة: مساهمات النمو للقطاعين العام والخاص، وتكوين رأس المال الثابت، وديناميكيات سوق العمل، تتضح ملامح تحول هيكلي متكامل في الاقتصاد السعودي منذ عام 2020، حيث بدأت المملكة تنتقل من نموذج النمو القائم على الدورات النفطية إلى نموذج أكثر تنوعًا واستدامة. ويشير أيضاً أن التلازم بين دمج المرأة، وتحسن الإنتاجية، وتدفق الاستثمارات الخاصة إلى أن العوائد الاقتصادية باتت تتسرَّب فعليًا إلى الاقتصاد الحقيقي. إلا أن التباطؤ النسبي في نمو الناتج المحلي والاستثمار خلال -2023 2024، رغم التحسن في سوق العمل، يعكس نقطة تحول حرجة؛ إذ أصبح الحفاظ على مستويات النمو يتطلب التركيز على الابتكار، وتنمية المهارات، وتحسين الكفاءة المؤسسية، بدلاً من الاعتماد على التوسع الكمي في الاستثمار فقط.
** **
- د. هدى منصور