د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
تفضّل عليّ بهذا الكتاب ابني البار الدكتور فهد الخلف، وحين رأيت هذا العنوان أول وهلة ظننته لرواية مثيرة؛ ولكن مؤلفه الحصيف الدكتور تركي بن ماطر الغنّامي دوّن تحته عنوانًا شارحًا هو «بحث في تحرير معنى الأعراب في اللغة والأدب والشرع»، وتبين بهذا أنَّ (الأعرابية) ليس نعتًا لذات اللثام؛ بل هو مصدر صناعيّ يدل على مفهوم الاتصاف بصفة الأعراب، وهو مثل الجاهليّة والشعوبية، والعقلانية، وغيرها مما ازدادت الحاجة إلى استعماله في لغة المعاصرين لتعدد الأفكار والمذاهب الفكرية والعقدية، وبالجملة يعالج الكتاب معنى (الأعراب).
وقد نال هذا اللفظ من الإشكال ما أغرب بعض الناس في تفسيره وبيان معناه، وشاع بين الناس أنه مرادف للبداوة كل المرادفة، وهذا ما دفع الدكتور تركي بن ماطر الغنامي إلى تتبع دلالة هذا اللفظ تتبعًا مدهشًا، واعتمد في ذلك على عدد هائل من كتب التراث المستغرقة لأنواعه وتعدد مصادره، وكان في درسه مثالًا رائعًا لدقة السبر وحسن الوصف وسلامة الاستنتاج بعد قراءة متعمقة ناقدة، وأحسبه أمضى وقتًا طويلًا من التأمل والتفكر في هذه المادة الغزيرة التي تراكمت بين يديه ليحسن اصطفاء ما رآه جديرًا بالتدوين، وإن ما يدهش القارئ حضور المؤلف المستمر على الرغم من النصوص المنقولة هنا وهناك القصير منها والطويل.
تبين للمؤلف بعد رحلة لغوية أدبية تاريخية شرعية أنَّ لفظة (أعراب) لم تكن في لغة الأوائل تعني البدو ولا البداوة، وأن حمل ما جاء منها في النصوص على البادية بإطلاقٍ وهْمٌ تجب معالجته، إذ ليس لها في لغة العرب معنى يعدو معنى الجمع؛ فأعراب جمع (عَرَب)، مثل (ترك) و(أتراك)، و(حبَش) و(أحباش).
وطرأ للأعراب معنى شرعيّ صاحب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفاقًا لشيوع المعنى الشرعي الناشئ للفظتي (مهاجرون) و(أنصار) إذ تخصص المعنى، ثم كانت تطورات دلالية تعاقبت على هذه اللفظة بعد فتح مكة وسقوط فرض الهجرة، وما تلا ذلك من الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ثم ما استجد من تمصير الأمصار ونزول العرب الفاتحين في العراق والشام.
ورأى المؤلف أنّ كل شارح لنصّ تراثيّ «لا يستصحب عند شرحه لهذه اللفظة السياق الزمني واللغوي سيكون عرضة للزلل، وربما حمل على النصوص معنى لم يرده القائل ولم يشر إليه».
قدم المؤلف لموضوعات البحث بمقدمة ممتعة تغري القارئ بمواصلة القراءة في موضوع لغوي جادّ، ولا غرابة أن صاغ المقدمة بهذه اللغة الأدبية الراقية الجميلة فالمؤلف شاعر يمتلك ناصية اللغة باقتدار.
جُعلتْ موضوعات البحث في فصلين أولهما (الأعراب بين المعاجم اللغوية ولغة الفصحاء)، افتتحه بـ(مدخل وتساؤل)، إذ رأى (الأعراب) يصور بصورتين محيرتين قال «وبين هاتين الصورتين: أعراب الكتب الشرعية، وأعراب كتب اللغة والأدب، وقفت حائرًا، أهؤلاء هم أولئك؟ أيعقل هذا؟ كيف يبحث عن تفسير كتاب الله عند قوم لا يكاد يرد ذكرهم في القرآن إلا في معرض الذم؟ وكيف يكون فهم هؤلاء وقولهم حجة يحتج بها العالم على عالم آخر؟ وكيف يكون هؤلاء القوم الذين تذوب أخبارهم وأشعارهم رقة وصدق عاطفة جفاة أجلافًا؟». من أجل ذلك مضى يبحث (معنى الأعراب في معاجم اللغة)، ويرصد (اضطراب النحويين في جموع عرب وأعراب)، وجعل عنوانًا يبين أن لفظة (أعراب جمع عرب)، ومضى إلى تتبع (معنى العرب بين معاجم اللغة والتاريخ القديم) ثم (عرب وأعراب في استعمال مؤرخي الإسلام وأدباء العربية)، ورأى أن يشير إلى (الأعراب في الشعر الجاهلي) ثم ما طرأ من تغير دلالة (الأعراب في الأحاديث النبوية الشريفة) وتلبث عند الفرق (بين الأعرابي والبدوي في لغة عصر الرسالة) وتبين له بالتبصر في النصوص (المضادة بين المهاجرة والأعرابي).
وأما الفصل الثاني فهو (غياب المعنى الشرعي لأعراب، وبعض آثاره)، بدأه بـ(مدخل للمعنى الشرعي للفظة أعراب) ليصل إلى (تحقيق معنى الأعراب في الاصطلاح الشرعي)، واستعرض في هذا السياق جملة (من أحاديث أعراب مكة المشهورة في كتب السنة) وما هم من البادية، منها (حديث المسيء صلاته، والأعرابية المتوهمة)، ثم توقف عند (الأعراب الجفاة بين الحاضرة والبادية)، وفصل القول في (الأعراب في مهبّ التغيرات الدلالية) وقال في هذا السياق «والحق أن عدم تحرير المعنى الدقيق لـ(أعراب) أوجد الخلط بين دلالاتها المتعددة اللغوي القديم والشرعي الحادث وما بني عليهما بعد ذلك، ومنها هذا القول من أبي منصور [الأزهري]». وهذا أجاءه إلى مناقشة نصّ الأزهري في معجمه (تهذيب اللغة).
نشر هذا الكتاب الرائع في 1443هـ، وهو مثال للبحث المنهجي الجاد الجدير بالقراءة وبالاحتذاء.