لا تزال القصائد الشعبية في المملكة العربية السعودية تُروى في المجالس، وتتناقلها الألسن؛ ليس فقط لما تحمله من صور بلاغية وأحاسيس وجدانية، بل لأنها تحوّلت إلى أحد أهم أدوات التوثيق غير الرسمي للتاريخ، والجغرافيا، والتحولات السياسية. وفي منطقة العارض، مهد الدولة السعودية الأولى، تُعدّ الدرعية نموذجًا حيًّا لهذا الدور؛ إذ شكّلت مرآةً للأحداث، ومخزنًا للهوية، ومسرحًا للشعراء الذين خلّدوا عبر قصائدهم تفاصيل الحياة السياسية، والاجتماعية، والدينية، والعسكرية.
الشعر الشعبي: الذاكرة الحية للمجتمع
في مجتمع ما قبل التدوين الرسمي، كان الشعر النبطي الوسيلة الإعلامية والثقافية الأبرز؛ من خلاله عُرفت أخبار الحروب والتحالفات، وتوثقت المواقف والمشاعر، وتناقلت الأجيال صورًا نابضة عن زمانهم ومكانهم. فكان الشاعر هو المراسل والمؤرخ، ينقل للناس ما يجري في الحواضر والبوادي. وكان الشعراء الشعبيون شهودًا على الأحداث، يسجلون الوقائع، ويُسمّون المواقع، ويُظهرون مواقف الأفراد والقبائل، بل يتفاعلون مع القرارات السياسية وأحوال المعيشة.
الدرعية في الشعر: من المجد إلى المعركة
حين نُسلّط الضوء على الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، ندرك عمق ما قدمه الشعر الشعبي في التوثيق التاريخي والسياسي. فقد تغنى بها الشعراء منذ عهد الدولة السعودية الأولى، حين كانت منارة علم ودعوة، ومركز حكم وتحالف، وموطنًا للأمن والاستقرار. كما نجد أن الشعراء قد رافقوا نشأتها، ونهضتها، وحتى لحظة سقوطها. من أبرز هؤلاء الشاعر (عبد الكريم بن حبشان)، أحد أوائل شعراء الدولة، كتب بالنبطي والفصيح، وعبّر عن مبادئ الدعوة السلفية التي أطلقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قصيدة منها:
وقد قام ذا الشيخ للدين ثلاثين
عام ثم ثمان خمسة أعومي
ينادي بصوت ويبلغ ويدعو
ويهد بأمر الله الزهي اقومي
ينادي بتوحيد الاله منزله
بدعوته فذكر الله حتى اعظمي
وجاءت هذه القصيدة في سياق تاريخي مؤلم، حين مُنع الحجاج النجديون من أداء المناسك وحُبس عدد من علمائهم، فكان الشعر أداة للاحتجاج والدفاع عن الحق الديني:
وكم منعونا من أداء فريضة
ولا من الميقات للحج نحرم
وكم طردونا أن نطوف ببيته
وعن شربه من برد ماء بزمزم
تعكس قصائده التحول الديني في نجد وبداية انبعاث الإصلاح الديني والاجتماعي من الدرعية، حيث كان الشعر وسيلة لنقل الدعوة والإصلاح وتحفيز الناس على التمسك بالقيم الدينية. هذه الأبيات لا تحكي فقط عن حدث ديني، بل توثق قيام الدولة، وتؤكد على مركزية الدرعية في هذا التحول.
وحين وقعت الكارثة بسقوط الدرعية عام 1233هـ، تفجرت مشاعر الرثاء، وبرز الشاعر (أبو نهية) بقصيدته الحزينة التي وصف فيها آثار السقوط:
ابكي على ربع عفاف واهل نقى
ذبحوا أبليا شافع وشفيع
ابكي على ربع بمصر تشتتوا
فهد وسعد والعيال جميع
وحسن وعبد الله وفهد وخالد
وباقي ال مقرن لو يكون رضيع
كانت قصيدته صدى لمأساة جماعية، سجلت أثر الاحتلال العثماني على النفوس والمكان، وأظهرت كيف تحولت الدرعية من مركز قوة وعزة إلى دار للغربة والألم.
ويستمر الشاعر في نعي الأطلال، مسترجعًا صورة الدرعية في أوج مجدها، فيقول:
وابكي على عوجا ربينا بربعها
صغار كبارٍ نشتري ونبيع
للجن ميدان تطارد بركنها
ما غير جدران كذا وسفيع
ما كن فيها صار للحكم منصى
ولا بني حصن في الطريف رفيع
ولا شدت الركبان منها لغيرها
ولا بركت فيها الطروش قطيع
ولا بني فيها للعلم مدارس
ومساجد يأتونها جميع
ولا عجت الأسواق بالبيع والشرى
ولا موسم فيه العقول تضيع
هذه الأبيات تنقل صورة المكان بعد الخراب، وتُظهر كيف مسّ الدمار كل زاوية من زوايا الدرعية.
ومع حلول حصار إبراهيم باشا عام 1818م، لم يصمت الشعر، بل تحوّل إلى صوت مقاومة. قال أبو نهية واصفًا الصمود:
يا ما قتل منا صبي مجوخ
وبالترك نأخذ للقضا سريع
ويا ما سفكنا فيك من ساخن الدما
وياما وطينا بالمداس صريع
وأضاف:
ذبحت بالمدافع ثمانين لحية
واخذت واجبها بلا مبيع
أيضا وعلى هذا ثلاثين شاهد
وهرج بليا شاهد يضيع
غدت لنا كالأم وحنا عيالها
وسور لها دون العداة منيع
في هذه الأبيات، نرى مشاهد الحصار بوضوح، ونستشعر الثبات والمعنويات العالية. ويعزز هذا الموقف قول أحد شعراء العرضة في مشهد القتال:
الى صاح صياحنا نقلنا سلاحنا
يم الرفايع فازعين جميع
تُبرز هذه الأبيات الروح القتالية والتلاحم الشعبي دفاعًا عن الدرعية، وتُجسّد اللحظة الشعرية كوثيقة مقاومة بليغة.
جغرافيا نجد على لسان الشعراء
لم تتوقف القصائد عند الحدث السياسي، بل وصفت جغرافية الدرعية ومحيطها بدقة، فذكر الشعراء الأودية، والطرق، والجبال، ومواقع اللقاء أو الحرب أو التنقل، ما يجعل من شعرهم وثائق جغرافية تساعد الباحثين حتى اليوم على فهم التوزيع المكاني والحياة اليومية في العارض. كما لم يكن الشعر فقط مرآة للحدث السياسي، بل جسّد تفاصيل المكان، فدوّن أسماء القرى والشعاب والجبال والأودية، وخلدها في الذاكرة الجمعية. الشاعر (ناصر العريني)، أحد أعلام الشعر في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشر الهجري، وصف الدرعية ومحيطها قائلاً:
يا ديرة بالعرض ماها قراح
يا ما بها من مدمج الساق مياح
قبليها خاشر وذيك اللياح
وشرقيها بالوصف رجم ابن طلفاح
في هذه الأبيات وصف العريني بيئة وحدود الدرعية، ثم جاء بعده الشاعر (عبد الله بن خميس)، الأديب والجغرافي والمؤرخ، الذي ربط الشعر الشعبي بالجغرافيا، وكتب:
سجى وشج ولج واسجم بطوفان
وأوجس مخايل عارضه منه خيفة
وأضفى على الخمرة وبوضه وحمران
وأطول على هاك المثاني وقيفه
ومن جال سدحه لين قارة عصيدان
وعلى العميميرة تزايد رفيفه
وعلى الوصيل الى مواهيل عجران
وعلى النعيمة تلاقي وجيفه
وعلى ربى العوجا سكوب وهتان
تصير به عقب الشهابة مريفه
عكست قصائده فهمًا عميقًا لتضاريس الدرعية ومناخها، وجسدت صورة الشعر الجغرافي في أعلى مستوياته، ما يدل على علاقة الإنسان بالبيئة وتأثير الطبيعة على الحياة الاجتماعية.
الشعر صوت الناس والميادين
الشاعر (عبد الله بن دريس)، أحد شعراء العرضة وشهود معارك توحيد المملكة، رافق الجيش السعودي في حرب اليمن الأولى عام 1352هـ، وقال:
يوم يحيى تبين هو وجيله
وصل نجران مذهوب الحمايل
تُجسّد هذه الأبيات مشهدًا بطوليًا من معارك توحيد المملكة، حيث يصف الشاعر القائد (بو فهد) الذي هو الملك سعود الذي دافع عن حدود الوطن، مستحضرًا صولاته من نجد إلى حوران وصنعاء، ومرور الرسائل بين الزعماء في زمن احتدمت فيه المواجهات وشهدت الجزيرة العربية تحولات مصيرية:
بأمر شيخ حمى تالي السبيلة
هو حمى نجد لا جته الصمايل
بو فهد لي ظهر ياصل قبيلة
طير حوران يلطم كل عايل
لي حدر وادي ضيق مسيله
من ورى الطور لي صنعا وحايل
ارتجف نجد قواته وخيله
يوم جانا من الزيدي رسايل
وأضاف عن الأمير فيصل آنذاك:
ما درى انا ندوف ونعتبي له
جاه فيصل بشيخان القبايل
جاءت أبياته توثيقًا حيًّا لمعارك التوحيد، وصورة للشجاعة والانتماء الوطني الذي ميز الجيش السعودي آنذاك. كما أن هذا النص لا يُقرأ كقطعة أدبية فقط، بل يُعتبر وثيقة اجتماعية تعكس الحالة السياسية في بدايات الدولة السعودية الثالثة، ويُظهر ثقة الناس بقادتهم.
أما الشاعر (عبدالله بن خالد)، فله قصيدة يتيمة، لكنها ذات قيمة توثيقية عالية، وثّق فيها حالة الحرب:
هاضني بعواه ذيب الرديفة
شايفٍ سرحان عسكر مصر
شبعت العرجا طريٍ وجيفة
والسباع الحايمة والنسر
ارس يا غرس بوادي حنيفة
لا تزعزع يوم جاك النذر
بالمطارق والسيوف الرهيفة
سالت العوجا بدمٍ حمر
تعكس هذه الأبيات مشهدًا حيًّا لمعركة حربية، وتُعدّ مصدرًا شفويًا ذا دلالة لتوثيق أحداث تلك الفترة.
الشاعر عبد الرحمن بن صفيان، المعروف بلقب «شاعر الحرب»، سجّل في قصيدته الشهيرة «أم الملوك» مآسي الحصار والدمار الذي أعقب سقوط الدرعية، كما عبّر عن مشاعر الحزن على نزوح أهلها، وبعد سنوات عاد ليتأمل أطلالها، مستحضرًا مجدها وتاريخها العريق، فأسماها «أم الملوك» وفاءً لمكانتها قال في مطلعها:
يا دار وين أهل الشجاعة والأخبار
اللي تفانوا دون عرضك وغاليك
تصوّر هذه الأبيات لحظة مأساوية من تاريخ الدرعية، وتستحضر بطولات رجالها وصبرهم في وجه الحصار والخيانة:
وين الملوك اللي على قب الأمهار
العاديات الضابحات المعاريك
وطو بها حمر الطرابيش تكرار
تسحب جنايزهم على جال واديك
وين العيال اللي يهزون الأشعار
ذبحوا من أجلك يوم هم ما رضوا فيك
هل كلمة التوحيد في سر واجهار
حاموا عليها لين دفنوا بحاميك
يا أم العذارى اللي كما فلق جمار
تنخى أهل العوجا وتندب عزاويك
تخاف من جهد البلا مثل ما صار
تبلى السراير يوم قلت عوانيك
طال الحصار وخانوا أعوان الأشرار
قضت ذخيرتهم ولا فرطوا فيك
تُبرز ابياته مشاعر الحنين والحزن بعد انكسار الحصون وفقدان الرموز، مما يعكس الجانب الإنساني العميق للمأساة. بعد ذلك أخذ يبث شجونه وأضاف:
ولنا الشرف فيما تبقى من الآثار
ولولا الدول تخشاك ما كان تغزيك
ثم جسّد مشهد استعادة الدرعية ومكانتها، وتمجّد بطولات الملك عبد العزيز ورجاله في الثأر للدرعية وتحريرها، مشبّهًا إياهم بأجدادهم الأبطال الذين صانوا المجد وورثوا العزة:
يا ام الملوك اللي خذوا فيك للثار
عبد العزيز اللي بسفيه رجع فيك
حر كفخ من قصر دسمان باحرار
وذبح عشاشيقك وحل ونزل فيك
ارث حرار من صواريم سنجار
هم مثل أبوهم دون شك وتشكيك
وظهر بك عيال سليمين من العار
بنو بذروه قاضيين محاجيك
وفي عهد الملك فيصل، كتب الشاعر (عبد الله العماري) قصيدة وطنية بمناسبة إنشاء سد الدرعية عام 1394هـ:
وانشا الملك فيصل لنا سده العال
في عالي الوادي عسى فاله السيل
أثابه الله في سعي حسن الأعمال
لله في نفع الضعوف المقاليل
وثّق العماري منجزًا تنمويًا حديثًا ربط فيه بين الماضي الزراعي والنهضة الحديثة، مما يعكس تحولًا في العلاقة بين الإنسان والبيئة عبر الزمن.
الخلاصة
الشعر الشعبي ليس مجرد فنّ، بل سجلّ وطني وثقافي حي، يسدّ ثغرات التوثيق الرسمي، ويقدّم قراءة وجدانية ومعرفية لتاريخ المجتمع السعودي. وفي الدرعية يتجلّى هذا الدور بوضوح؛ حيث التقت القصيدة بالسيف، والكلمة بالموقف، والشاعر بالمؤرخ، فتحوّل الشعر إلى وثيقة تنبض بالحياة، توثّق الأحداث، وتستحضر الأمكنة، وتخلّد الأبطال.
إننا بحاجة اليوم إلى إعادة قراءة هذا الشعر، لا بوصفه تراثًا فنيًا فحسب، بل كمصدر شفوي ومعرفي، يُكمل الروايات الرسمية، ويسهم في فهم أعمق لبنية الدولة السعودية وتاريخها الاجتماعي والروحي، خصوصًا في البيئات التي لم تعرف التدوين المكتوب، فجاء الشعر ليقوم بدوره… ببلاغة، وصدق، وإخلاص.
- المصدر: شعراء من الدرعية. مشاعل حمود الشبيب، ط1، 1445هـ، المكتب المصري للمطبوعات، القاهرة.
** **
- د. مشاعل بنت حمود الشبيب