د.زيد محمد الرماني
إن التاريخ الطويل للاقتصاد يمكن دراسته من خلال ثلاث محطات مهمة ورئيسية وهي على الترتيب (آدم سميث) وكتابه «ثروة الأمم» الذي نُشر حول الاقتصاد الحر والمفتوح، و(كارل ماركس) وكتابه «رأس المال» الذي ينقد فيه رأسمالية (سميث) نقدًا شرسًا يوضح تناقضاتها، ثم يطرح نظريته الخاصة حول اقتصاد يتم تخطيطه بالكامل، ثم (كينز) وكتابه النظرية العامة الذي يحاول إحياء رأسمالية (سميث)، لكنه لا يعتمد كثيرًا على اليد الخفية.
إن كتاب (الثلاثة الكبار في علم الاقتصاد) لمؤلفه مارك سكويسين كتاب في تاريخ الفكر الاقتصادي، لكنه ليس كتابًا تقليديًا يقدم عرضا شاملاً مُتسلسلاً للمدارس الاقتصادية المعروفة، بل هو يعتمد منهجًا مختلفا يقسم وفقًا له تاريخ الفكر الاقتصادي لثلاث محطات وثلاث زوايا للنظر، فيركز على من أسماهم بـ «الثلاثة الكبار»، مُشكلاً منهم نقاط ارتكاز وانطلاقا في عرض الثلاثة الخطوط الأساسية في الفكر الاقتصادي.
فما بين آدم سميث وكارل ماركس وجون ماينارد كينز، يتحرك المؤلف عارضًا لحيواتهم وأفكارهم الرئيسية، مُحاولاً استكشاف العلاقات الجدلية بينها وكيف انتهت لنا في صورتها النهائية، دون أن ينغمس في مستوى تفصيلي من العرض الفني يبعده عن القارئ العادي. ومُتنقلاً بينهم عبر محطات فرعية يمثلها تلاميذهم الرئيسون، بما يسدّ الفراغات في عرضه غير التقليدي لهذا التاريخ الفكري الطويل.
والكاتب لا يدعي حيادية من أي نوع في عرضه للمفكرين الثلاثة وما يمثلونه من مدارس فكرية، وهذا أحد المناهج المُعتمدة في كتابة تاريخ الفكر الاقتصادي، إذ يكون الكاتب واضحًا في كونه يعرض لتاريخ الفكر من موقعه الفكري، وهكذا فكاتبنا بدءًا من مقدمته يبين انحيازه الكامل لمدرسة الحرية الاقتصادية التي يمثلها في نظره آدم سميث، ويضع على أساس انحيازه هذا ترتيبًا للثلاثة الكبار من الأعلى للأدنى على أساس مسطرة «إيديولوجية» بحتة، وهى مسطرة الحرية الاقتصادية التي يتبناها!
وهذا الانحياز طبيعي في ضوء الخلفية «النمساوية» للمؤلف، فهو ينتمي للمدرسة الاقتصادية النمساوية التي تمثل أقصى اليمين الرأسمالي في الفكر الاقتصادي، حيث الإيمان المُطلق والأعمى بالسوق الحرة وبالمنظم الرأسمالي.
ولعل في هذا فائدة في أن يطلع القارئ على كيف يرى ويفسر هؤلاء الأزمات البادية للعيان للنظام الرأسمالي اليوم، كذا أن ينتبه للفروق المهمة ومواضع الخلاف بينهم وبين التيار الكينزي واسع الانتشار، والذي كثيراً ما يتصور القارئ غير المطلع أنه الممثل الحقيقي للرأسمالية.
لكن الانتقاد الحقيقي الذي يجب توجيهه للكتاب هو أنه لم يخرج على المركزية «الأنجلوساكسونية» التي تطبع الغالبية العظمى من الأعمال الصادرة في تاريخ الفكر الاقتصادي، بما فيها الأكثر شمولاً وعمقًا وتخصصًا، إذ يتم تصدير تاريخ الفكر الاقتصادي كما لو كان مُنتجا غرب أوروبي - أمريكيا بالكامل، فلا مساهمات في شرق أوروبا ولا في روسيا ولا في غيرها من الدول، إلا على سبيل الاستثناء، وفي إطار سياق كلي أنجلوساكسوني يكاد يطبع علم الاقتصاد نفسه بطابعه!
وربما رد بعضهم بالقول: إن هذا الطابع بديهي بحكم أن الدول الأكثر تقدمًا اقتصادياً - واقعًا وعلمًا - كلها تقع في هذا النطاق الجغرافي؛ بما يفرض طبيعة المشكلات التي تتم دراستها علميا، وبما يسيّد المساهمات المُقدمة في أكاديمية هذا النطاق الجغرافي وحدها ويقدمها على ما سواها من مساهمات. وهو قول به قدر من الصحة، إلا أنه لا يبرر تجاهل عشرات الأسماء المهمة، التي بزت وسبقت مساهمات بعضها مساهمة كينز مثلاً، وفي النطاق العلمي الذي صنع اسمه تحديدا كأحد الثلاثة الكبار أنفسهم!
وعمومًا لا يلغي هذين المأخذين أهمية الكتاب بالنسبة للقارئ العام ولطلبة الاقتصاد المبتدئين، فبساطة الكتاب وعرضه المميز ومنهجه المختلف في عرض تاريخ الفكر الاقتصادي تجعل منه مقدمة جيدة في هذا الحقل الفكري الضخم والواسع والمتشعب، سواء للقارئ العادي الذي تلزمه فكرة عامة في الموضوع، أو للطالب المبتدئ الذي يحتاج لمقدمة تصلح أساسًا للبناء عليها في مراحل أكثر تقدماً.