د. طارق بن محمد بن حزام
في الزاوية ذاتها تجلس الأم تحت ضوءٍ خافت تنظر إلى الفراغ وكأنها تسترق السمع لشيءٍ ما ضاع وفي الغرفة المجاورة الأب يقلِّب هاتفه كأن العالم كله مختزلٌ في شاشةٍ لا تُحادثه إلا بالصمت والأبناء يسكنون الغرف ويحتضنون الأجهزة لكن لا أحد يطرق باب أحد ولا أحد يسأل: كيف مرَّ عليك يومك في زمنٍ ازدحمت فيه البيوت بالأجهزة وامتلأت الجدران بالصور لكن خوت القلوب من الحضور.
الكل مشغول، الأب في هاتفه الأم في عملها الأبناء في عوالمهم نعيش معًا لكننا لا نعيش مع بعض كلٌّ في عزلته الخاصة نتبادل الحروف ولا نتبادل القرب نضحك في وجوه بعضنا لكنّنا لا نعرف ماذا يُحزن الآخر كم من أبٍ بات لا يعرف تفاصيل حياة ابنه وكم من أمّ لا تدري بماذا يُفكّر قلب صغيرها وكم من زوجين يتحادثان يوميًا لكن دون أن يقول أحدهما للآخر «أنا أفهمك».
الغربة الحقيقية حين تسكن تحت سقفٍ واحدة وتفصل بينك وبين من تحبّ آلاف الكلمات التي لم تُقل وآهاتٌ لم تجد من يصغي لها صار كلّ ساكنٍ فيه ضيفًا مؤقتًا ينتظر موعد الرحيل وإن طال به المقام.
ما الذي حدث كيف تحوَّلت بيوتنا من أعشاشٍ دافئة إلى فنادقَ باردة كلٌّ يعود إلى غرفته كما يعود الغريب إلى نُزُله، لا يسأل من التقى ولا يسأله أحد عن قلبه عن حزنه عن شعلةٍ خبت أو رجاءٍ ذَبُل أيّ غربة أشد من غربة المشاعر ما أقسى أن تفقد الأُنس في بيتٍ مليءٍ بالناس.
في زمن الصمت غربة لا تُكتب في الأوراق الرسمية ولا تُشخّص في العيادات النفسية لكنها تنهش الأرواح وتُطفئ دفءَ البيوت رويدًا رويدًا غربة الصمت لا تصرخ، بل تتسلَّل ببطء تبدأ بإلغاء جلسة ثم بتجنّب حوار ثم بالصمت الطويل ثم يصبح الحديث مجرد إجراء والعناق عادة موسمية والنقاش مواجهة وصراع لا مودة ورحمة.
يا من تسكنون البيت ذاتها اقتربوا قليلاً، اسألوا عن بعضكم، لا لأن واجبًا يُملي، بل لأن القلب يشتاق، ابحثوا عن الدفء بين تفاصيلكم لا بين جدرانكم، لْنُعد للبيت صوته القديم الذي كان يضحك ويحنّ ويحضن ويُربّت على الأرواح المتعبة لكي نعود من غربتنا، لا نحتاج إلى معجزة، بل إلى بوح بسيط كلمة حنونة سؤال حقيقي نظرة صادقة أو جلسة قصيرة بلا هواتف، نحتاج إلى أن نُعيد للبيت دفء الكلمة وصدق الحضور وإخلاص النيَّة، علينا أن نُدرك أن أعظم ما نملك ليس البيت، بل من يسكنه.