د. طارق بن محمد بن حزام
في زمنٍ تتسارع فيه الخطى وتعلو فيه الأصوات، وتتعاقب فيه الوجوه كأمواج مضطربة يقف الإنسان حائرًا بين مدّ الحياة الحديثة وجَزر الروح الظمأى. صخبٌ يطوّقه ولهاثٌ يلاحقه حتى ظنَّ أن السعادة في سرعة الوصول عبر التطبيقات الإلكترونية، وغفل عن سكينة الروح في رحلة الحياة.
قال تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقد جاء في الحديث الشريف: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ويكون الشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة» (صحيح مسلم).
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة علامات الساعة والأهوال التي تكون قبل يوم القيامة، ومنها نزع البركة من الوقت حتى يتقارب الزمان كما في هذا الحديث الشريف. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} هي الروح التي ما خُلِقت لتُغذّى بالأرقام، ولا لتُروى بالأضواء الزائفة فقط، بل لتسمو في فضاءات الذكر وتحلّق في سماء القرب من خالقها.
كم من قلبٍ تزيَّن ظاهره وداخله خراب من الوحشة، وكم من وجهٍ أضاءته الأضواء وغابت عنه أنوار الطمأنينة! ألا ما أجمل قول الحق جل جلاله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
فالقلب لا يهدّئه ضجيج المدن ولا يسكّنه جمع المتابعين إنما تطمئنه همسة في الأسحار ودمعة في السجود ونظرة صادقة نحو السماء.
إنها دعوة للعودة إلى خالقها إلى تأمُّل ما بعد هذه الحياة المسرعة واستحضار قول النبي «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
هو القلب ذلك السر العظيم الذي به يحيا الإنسان حقًّا وبه يعلو في مقامات القرب أو يهوي في دركات الغفلة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
يالها من وقفة صادقة حين ينظر العبد في مرآة أعمال ويزنها بميزان الحق بعيدًا عن زيف المظاهر وتكلّف الصور.
في زمنٍ صار فيه التأمل ترفًا والصمت استثناء يصبح الذكر شاطئ نجاة، وتصبح لحظات الخلوة مع الله غنيمة يفوز بها من شمّر قلبه قبل جوارحه.
فلنحذر أن نكون أسرى تطبيقاتنا أو عبيد أجهزتنا ولنجعل من العصر مطيّة نرتقي بها لا مهواة نهوي من خلالها.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
عندها نعيش العصر ونحيا الروح فنكون مع الناس بأجسادنا ومع الله بقلوبنا راسخين كجذور نخلة شامخين كقمم الجبال طيبين كنسمة الفجر.