في مقاله الأخير، «ثم أصبحت الحية الصغرى كوبرا»، يضعنا الدكتور جاسر الحربش أمام لحظة عربية شديدة الحساسية والخطورة. المقال لا يكتفي بسرد الوقائع ولا باستدعاء التاريخ، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: دقَّ ناقوس الخطر حيال حالة التراخي العربي في فهم طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه طويلة المدى.
يتّكئ الكاتب على خطاب نتنياهو الأخير، والذي وصفه بـ«وصية الوداع»، ليجعل منه نقطة انطلاق نحو قراءة أوسع للفعل الإسرائيلي القائم في المنطقة. بمهارة كبيرة، يبيِّن الحربش أنّ ما يجري اليوم في غزة والضفة ليس مجرّد ردّ فعل ظرفي أو تكتيكات عسكرية عابرة، بل هو جزء أصيل من مخطط توراتي توسّعي يضع المنطقة بأكملها تحت تهديد مباشر، بدءًا من النيل ووصولاً إلى الفرات.
ولعل أهم ما يميز هذا المقال هو استخدامه الشهادات الحيَّة والصادمة -كما في رواية الجراح البريطاني نيكولاس ماينارد- لفضح منسوب الوحشية واللا مبالاة في سلوك الجنود الإسرائيليين. هذه الشهادات ليست لإثارة العاطفة فقط، بل لتعرّي خطاب «التطبيع الهادئ» الذي يحاول أن يُخدِّر الشعوب العربية بزعم أن إسرائيل تغيَّرت وأن الواقع يفرض نوعًا من «التعايش».
لكن، وعلى الرغم من حِدّة المقال، إلا أن الكاتب يترك باب الاستفاقة مفتوحًا أمام العرب. فهو لا يأخذ موقع الواعظ المتشائم، بل يذكِّر بأن التاريخ يلعن من يتأخر في فهم الرسائل الميدانية، مهما كانت قسوتها. فالمعادلة بسيطة كما يقول: «لا تقطعنّ ذنب الأفعى وتتركها تتكاثر، لأنها ستعود في صورة أفعى أشد فتكًا وأكثر خطورة».
في الوقت نفسه، لا بد من الإشارة إلى أن عنوان المقال ولغته الرمزية (الأفعى، الكوبرا، السم...) قد تُفهم عند بعض القرّاء بوصفها خطاب تعبئة، لكنّها -في حقيقة الأمر- محاولة لاستعادة اللغة المفقودة في تحليل خطر المشروع الصهيوني، بعدما أصبحت لغة «الواقعية السياسية» غطاءً للتهرّب من الواجب الأخلاقي والقومي.
ربما الجملة الأبلغ في المقال هي ما جاء في خاتمته: «الويل لسكان هذه المنطقة... إن هم لم يأخذوا نتنياهو وجيشه وشعبه على محمل الجد قياساً على أفعالهم».
ذلك أنّ الكاتب يريد تذكيرنا بأن التهديد لم يعد في مرحلة «التشكل»، بل أصبح واقعًا يُترجم يوميًا على جسد غزة وسوريا ولبنان، وأن من يظن أن الأمر سيتوقف عند حدود معينة، فهو يقرأ التاريخ بالمقلوب.
خلاصة القول: إن المقال الذي كتبه الدكتور الحربش ليس صرخة عاطفية، وإنما يُعدّ وثيقة تحذير مبنية على مؤشرات واقعية وشهادات موثّقة. القوة فيه تكمن في أنه يعيد تعريف العدو بوصفه مشروعًا لا يتوقّف عند جغرافيا ولا عند تفاهمات.
ومن هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى مقالات مماثلة، ولكن أيضًا إلى مواقف وسياسات ترتقي لمستوى هذا الإدراك.
لقد تحوّلت «الحية الصغرى» بالفعل إلى «كوبرا».. لكن السؤال الذي يُفترض أن يشغلنا الآن ليس توصيف شكلها، بل: من سيوقفها قبل أن تلدغ الجميع؟
** **
المهندس غسان جابر - مهندس وسياسي فلسطيني - قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية - نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية والبلدة القديمة في الخليل.