إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
في المشهد الثقافي والفني، تظل المعارض الجماعية من أبرز الفضاءات التي تمنح للفن بريقه وللحوار رونقه؛ فهي لا تجمع اللوحات والتماثيل في قاعة فحسب، بل تجمع الأرواح المختلفة والخيالات المتعددة في مساحة واحدة يتقاطع فيها الإبداع مع التلقي. المعرض الجماعي هو أشبه برحلة داخل حديقة واسعة، يمر الزائر خلالها على ألوان وأفكار وتجارب، فيكتشف أن الفن ليس مجرد أسلوب واحد أو مدرسة بعينها، بل هو فسيفساء تنبض بالتنوع والاختلاف.
وعلى المستوى العالمي، لم تكن المعارض الجماعية وليدة اللحظة، بل نشأت مع بدايات الحراك الفني الحديث في أوروبا في القرن التاسع عشر، حيث كانت صالونات باريس الفنية بمثابة أول منصات كبرى تجمع مئات الأعمال تحت سقف واحد. تلك الصالونات منحت الفرصة للفنانين الشباب آنذاك للظهور جنبًا إلى جنب مع الأسماء الراسخة، وأسهمت في تشكيل اتجاهات جديدة مثل الانطباعية والتكعيبية والسريالية. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت المعارض الجماعية تقليدًا عالميًا يفتح مسارات للتجريب والنقاش، ويؤسس لحركة فنية متطورة لا تعرف الانغلاق.
وقد أثبتت التجربة أن هذا النوع من المعارض له أثر بالغ في ترسيخ المدارس الفنية، وفي تغيير ذائقة الجمهور، بل وفي فتح أبواب عالمية للفنانين نحو الانتشار.
نظم جاليري نايلا في مدينة الرياض معرض (الرياض آرت) السنوي حيث احتضن في هذه النسخة أعمال اثنين وأربعين فنانًا وفنانة من المواهب الصاعدة، ليكشف عن طاقات إبداعية جديدة تسعى لتثبيت حضورها في المشهد التشكيلي السعودي.
ما ميّز هذا المعرض ليس فقط العدد الكبير للمشاركين، بل تنوّع الأساليب والاتجاهات التي جاءت لتعكس تعددية المشهد الفني المحلي. فهناك لوحات واقعية انشغلت برصد تفاصيل الحياة اليومية بدقة متناهية، تجذب العين وتعيدها إلى ملامح مألوفة قد نغفل عنها في زحمة العيش، يقابلها أعمال سريالية انطلقت بعيدًا عن حدود الواقع، لتبني عوالم حلمية مدهشة تحمل الكثير من الغموض والأسئلة.
وبين هذين الاتجاهين، برزت أعمال تجريدية استندت إلى قوة اللون وحركة الخطوط، فصنعت موسيقى بصرية تهتم بالإحساس أكثر من الشكل، بينما قدّمت بعض اللوحات التعبيرية مشاهد إنسانية مشحونة بالعاطفة والدراما، تحاول أن تنقل المشاهد إلى عمق التجربة الداخلية للفنان. كما حضر التراث بملامحه المتنوعة، من الزخارف الشعبية إلى المشاهد التاريخية، ليؤكد أن الذاكرة الجماعية مصدر لا ينضب للإلهام. ولم يغب الخط العربي بجمالياته وأبعاده الروحية، حيث تحوّل الحرف إلى عنصر تشكيلي يربط بين المعنى والهيئة البصرية، في توازن بديع بين الفن والهوية.
إلى جانب ذلك، جاءت بعض الأعمال المفاهيمية لتفتح مساحة أوسع للتأمل العقلي، إذ ركزت على الفكرة قبل الشكل، وجعلت من اللوحة أو المجسم سؤالًا مطروحًا على المتلقي أكثر من كونه إجابة جاهزة.
هذا الحضور المتعدد للاتجاهات والمدارس منح المعرض روحًا غنية ومتنوعة، وجعل كل خطوة داخل القاعة تجربة مختلفة، بدا وكأن المعرض ليس مجرد مساحة عرض، بل هو حوار بصري متكامل يضع الزائر أمام مشهد بانورامي يختصر ملامح التشكيل السعودي المعاصر، ويؤكد أن ثمة جيلاً من الفنانين الصاعدين قادرًا على مزج الجرأة بالتجريب، والهوية بالانفتاح على العالم.
وفي ختام التجربة، يمكن القول إن مثل هذه المبادرات الفنية لا تخدم الفنانين وحدهم، بل تخدم المجتمع ككل؛ فهي تسهم في تعزيز الثقافة البصرية لدى الجمهور، وتمنح المبدعين الشباب فرصة للتعبير عن ذواتهم وتقديم أصوات جديدة تثري الساحة. فمثل هذه المعارض ليست مجرد فعالية عابرة، بل خطوة تؤكد أهمية بناء منصات مستدامة تدعم المواهب وتفتح لها آفاق الحضور، لتظل الرياض، ومعها المملكة، في قلب الحراك الفني العالمي الذي يقوم على التنوع والانفتاح والابتكار.
** **
تويتر:AL_KHAFAJII