قيمة المؤسسات ليست فيما تملكه من أصول أو ما تحققه من أرقام، ولا فيما تبرزه من حملات دعائية وترويجية، أو من تطوير للمنتجات، بل في هويتها التي تمنح كل ذلك عمقًا واتساقًا؛ فالهوية هي الجامع المشترك الذي يجعل من الأصول قوة فاعلة، ومن الحملات امتدادًا لصوت أصيل، ومن التطوير ابتكارًا يعكس شخصية المؤسسة. إنها البوصلة التي تضبط الاتجاه وتحوّل الجهود المتفرقة إلى مسار إستراتيجي يقود إلى مستقبل أفضل.
المؤسسة التي تعي أهمية هويتها تدرك أن منتجاتها وخدماتها ولغتها الاتصالية ليست عناصر متفرقة، بل فصول مترابطة من قصة واحدة تُبنى بعناية. وحين تكون هذه القصة صادقة وبنيت على أسس، تتحول إلى قوة استراتيجية وذهنية تترسخ في وجدان الجمهور، وتبني ثقة مستدامة تسبق أثرها إلى السوق.
غير أن الهوية، على رسوخها، لا تعني الثبات الجامد، فالعلامة التجارية بما تحمله من انعكاس حَيّ لتلك الهوية، تحتاج إلى تطوير متواصل يجدد حضورها ويحافظ على أصالتها. ولعل التجارب العالمية خير شاهد؛ فشركات كبرى مثل «كوكاكولا» حافظت على جوهرها لأكثر من قرن، لكنها أعادت صياغة علامتها التجارية مرات عديدة لتبقى متوافقة مع روح العصر.
وتشير الدراسات إلى أن العلامات القوية غالبًا ما تخضع لمراجعة شاملة لهويتها كل سبع إلى عشر سنوات، حتى تبقى قادرة على ملامسة جمهورها المتغير وتطورات السوق. وفي ذات السياق، تُظهر تجربة شركة Nike أن التطوير الواعي للعلامة التجارية لا يلغي الهوية، بل يجدد حضورها. فشعارها الشهير Swoosh ظل ثابت الجوهر منذ 1971، بينما خضع لتحديثات وتبسيطات متدرجة حافظت على أصالته وزادت من معاصرته.
والهوية بعلامتها التجارية القوية لا تقتصر على دورها في التسويق أو التعريف بالمؤسسة فحسب، بل تمتد لتكون درعًا في مواجهة الأزمات؛ فحين تمر الأسواق باضطرابات، أو تتعرض المؤسسات إلى هزات، فإن المؤسسات التي تتمتع بهوية ذات علامة تجارية قوية وقيم راسخة تكون أقدر على الصمود؛ فهي تملك قصة يصدقها الجمهور، وتاريخًا يثق به العملاء، مما يمنحها قدرة على استعادة مكانتها بسرعة أكبر مقارنة بمؤسسات لم تستثمر في بناء هويتها.
إلى جانب ذلك، فإن الهوية القوية تُعد أحد أهم عوامل جذب الكفاءات والاحتفاظ بها. فالموظفون لا ينضمون إلى المؤسسات من أجل الرواتب فقط، بل يبحثون عن معنى ودور ورسالة ينتمون إليها. والمؤسسة التي تمتلك هوية متماسكة، تعكس قيمًا صادقة وتوجّهًا واضحًا، تستقطب أفضل المواهب وتبني معهم علاقة ولاء ممتدة، وهو ما يشكّل ميزة تنافسية مستمرة.
كما أن الهوية المؤسسية القوية تُشكّل سلاحًا في المنافسة، خصوصًا في الأسواق المزدحمة والمتشابهة. ففي حين قد تتقارب المنتجات أو تتشابه الخدمات، تبقى الهوية هي الفارق الذي يمنح المؤسسة شخصية مميزة في نظر جمهورها. وهذا ما يجعلها الخيار المفضل، حتى حين تكون المنافسة على مستوياتٍ متقاربة.
الهوية المؤسسية ليست عنصرًا ثانويًا يُضاف للواجهة، بل ركيزة أساسية تمثل رأس المال الاستراتيجي للمؤسسة، وتحدد مكانتها في السوق، وتعزز قدرتها على بناء علاقات طويلة الأمد مع جمهورها. والمؤسسات التي تمتلك الجرأة لتجديد علاماتها التجارية بوعي وصدق، لا تكتفي بالحفاظ على مكانتها، بل تُعيد تأكيد دورها في صناعة المستقبل.
** **
- إبراهيم يوسف المالك