د.زيد محمد الرماني
إن الاقتصاد يعجُّ بمغالطات أكثر من أي دراسة أخرى يعرفها الإنسان؛ وليس هذا من قبيل المصادفة. فالصعوبات المتأصلة في هذا المجال كانت ستكون كبيرة بما يكفي في أي حال، لكن هذه الصعوبات تتضاعف آلاف المرات بفعل عامل ليس له أهمية، لنقُلْ في الفيزياء، أو الرياضيات أو الطب- إنه عامل الاستجداء الشديد للمصالح الأنانية. لذا، تناول كتاب (الاقتصاد في درس واحد) لمؤلفه هنري هازليت بالتحليل مغالطات اقتصادية أَخذت في الانتشار حتى كادت تشكِّل معتقَدًا جديدًا؛ لكن الشيء الوحيد الذي حال دون ذلك هي تناقضاتها الذاتية التي فرقت بين هؤلاء الذين قبلوا نفس الفرضيات إلى مئات (المدارس الفكرية) المختلفة؛ وذلك لأن من المستحيل في المسائل المتعلِّقة بالحياة العملية أن تكون مخطئًا على الدوام. لكن الاختلاف بين هذه المدارس الجديدة يكمن فقط في أن كل مجموعة من تلك تستيقظ قبل الأخرى على الغرائب التي تقودها إليها فرضياتها الخاطئة، فتتناقض المجموعة مع نفسها إما بالتخلي -بنحو غير متعمد- عن فرضياتها الخاطئة، وإما بالقبول باستنتاجات وهمية أو أقل إزعاجًا من تلك التي يقتضيها المنطق مبنية على هذه الفرضيات الخاطئة. لذلك كان الهدف من كتاب هازليت هو الشرح، فهو لا يدعي ملكية أي من الأفكار الرئيسة التي يعرض لها بالشرح. وإنما يسعى هذا الكتاب لإثبات أن كثيرًا من هذه الأفكار، التي تحظى بالقبول لكونها ابتكاراتٍ عبقريةً وتطورات، ليست في الحقيقة سوى صورٍ متجددة من المغالطات القديمة، وإثبات آخر على القول المأثور: من يجهل التاريخ محكوم عليه بإعادته.
يقول هازليت: وأظن أن المحاولة الحالية نفسها تتسم بالكلاسيكية والتقليدية الفجة: على الأقل هذه هي السمات التي سيقيم عليها أصحاب المغالطات التي سنُحلِّلها في هذا الكتاب أسباب محاوَلة رفضهم لها بلا شك. لكن الطالب الذي يهدف إلى معرفة أكبر قدر ممكن من الحقيقة لن يخشى مثل هذه الصفات؛ فمثل هذا الطالب لا يسعى إلى إحداث ثورة دائمًا، لن يسعى إلى (بداية جديدة) في الفكر الاقتصادي. وبالطبع، سيكون عقله مستعدًّا لقبول الأفكار الجديدة بقدر استعداده لقبول الأفكار القديمة؛ لكنه سيكون راضيًا بتنحية ذلك السعي الحثيث بهدف التباهي للتجديد والأصالة. مثلما ذكر موريس آر كوهين: «كوننا قادرين على نبذ آراء كل المفكرين السابقين يقضي على أي بارقة أمل في أن يثبت مع الوقت أن لأعمالنا أية قيمة بالنسبة إلى الآخرين».
ثم يقول هازليت: وآمل، أخيرًا، أن تغفروا لي قلة الإشارة إلى الإحصاءات في صفحات الكتاب. فمحاولة تقديم إثبات إحصائي، بالإشارة إلى آثار التعريفات وتثبيت الأسعار، والتضخم، والضوابط المفروضة على سلع مثل الفحم، والمطاط، والقطن؛ كان من شأنها مد نطاق هذا الكتاب لدرجةٍ تتجاوز الأبعاد التي يتناولها. ونظرًا لأنني أشتغل بالصحافة، فإنني أعي جيدًا مدى سرعة تقادم الإحصاءات، لتحل محلها أرقامٌ أحدث. وأنصح هؤلاء المهتمين بمشكلات اقتصادية محددة بقراءة مواد (واقعية) حالية، بتوثيقات إحصائية، تعرض لهذه المشكلات؛ لن تكون هناك صعوبة في تفسير الإحصاءات بنحو صحيح في ضوء المبادئ الأساسية التي تعلموها. ثم يبين هازليت: لقد حاولت صياغة هذا الكتاب بأسلوب ميسر ومتحرر من الفنيات بقدر ما يتماشى مع الدقة المعقولة، حتى يتسنى للقارئ الذي لا يمتلك معرفة سابقة بالاقتصاد قراءته. ورغم أنني ألفتُ هذا الكتاب كوحدة واحدة، فإن ثلاثة فصول منه قد نشرت كمقالات منفصلة.
ويؤكد هازليت في كتابه: لقد أوضحنا طبيعة الدرس، وأحد المغالطات التي تقف عائقًا في طريقه، بالمعنى المجرد. لكن هذا الدرس لن يرسخ في الأذهان، وستظل المغالطات قائمة وغير ملحوظة، لو لم توضح بالمثال. ويمكننا من خلال بعض الأمثلة الانتقال من المشكلات اليسيرة في الاقتصاد إلى المشكلات الأكثر تعقيدًا وصعوبة؛ كما يمكننا من خلال هذه الأمثلة تعلم رصد أكثر المغالطات فظاظة ووضوحًا بدايةً، وبعض من المغالطات الأكثر تعقيدًا ومراوغةً في النهاية.