سارة الشهري
القوة لا تكون دائماً صاخبة، ولا التأثير مرهوناً بالمنابر السياسية أو المؤشرات الاقتصادية. هناك قوة أخرى، أكثر رهافة وأعمق أثراً، تُمارس عبر الجمال والفن والثقافة. إنها القوة الناعمة، التي تُحدث تحولاً في صورة الشعوب وتعيد تشكيل الانطباعات عنها.
اليوم، تسير السعودية بخطى واثقة في هذا الطريق. فالمملكة التي كانت وما زالت، قبلة روحية للمسلمين، تفتح الآن نوافذها على العالم من خلال الموسيقى والفنون والآداب. ضمن هذا الحراك اللافت، جاءت الأوركسترا السعودية لتكون سفيراً مختلفاً لا يحمل جواز سفر دبلوماسياً، بل يحمل آلات موسيقية تصدح بألحانٍ قادرة على تجاوز اللغات والحدود.
جولة الأوركسترا حول العالم ليست مجرد سلسلة من الحفلات، بل هي لوحة رمزية لما تعنيه السعودية الجديدة. على خشبات المسارح من باريس ولندن إلى طوكيو وسيدني، يصعد شباب سعوديون ليعزفوا أنغاماً تنسج بين التراث المحلي والموسيقى العالمية. في تلك اللحظة، يكتشف الجمهور وجهاً آخر للمملكة وجهاً معاصراً، نابضاً بالحياة، يجمع بين الأصالة والحداثة، وبين المحلية والعالمية.
الموسيقى هنا لا تُعزف فقط، بل تروي قصة عن جيل شاب وجد في رؤية 2030 مساحة ليبدع وعن وطن قرر أن يخاطب العالم بأجمل لغة ممكنة لغة الفن. هذه الحفلات ليست بروتوكولاً ولا ترفاً، بل استثماراً في صورة السعودية وفي وجدان الآخرين. فحين يخرج المستمع الغربي أو الآسيوي من قاعة الحفل، وهو يحمل انطباعاً جديداً عن بلد ربما لم يعرفه إلا عبر الأخبار، يكون التأثير قد تحقق بأبهى صورة.
القوى الناعمة ليست شعاراً نظرياً، بل هي القدرة على أن تترك أثراً دائماً في ذاكرة الشعوب. وما تفعله الأوركسترا السعودية هو أنها تنقش في الذاكرة صورة مختلفة، صورة بلد لا يكتفي بمكانته الدينية والاقتصادية، بل يقدم نفسه كموطن للإبداع، وحاضن للموسيقى، وجسر للتواصل الإنساني.
لقد أدركت السعودية أن العالم لا يُخاطب فقط بالخطابات الرسمية، بل يحتاج إلى رسائل عاطفية عابرة للسياسة. والموسيقى، بطبيعتها، أصدق هذه الرسائل. فهي تصل إلى القلوب مباشرة، وتقول بوضوح ما تعجز عنه الكلمات نحن هنا، نشارككم الألحان ونحتفي بالجمال معكم.
لهذا، لا يمكن النظر إلى جولة الأوركسترا إلا بوصفها رحلة هوية. إنها إعلان أن السعودية الجديدة قادرة على صناعة حضورها العالمي من خلال الفن، تماماً كما صنعت حضورها عبر الاقتصاد والسياسة.
وفي زمن يميل إلى الصراع والضجيج، تبدو الأوتار السعودية وهي تعزف للعالم بمثابة دعوة للهدوء، ورسالة للسلام، وبطاقة تعريف جديدة تقول هذه السعودية، وهذا صوتها الذي يعبر عن طموحها وإنسانيتها.