د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
الأصل القياسي أن يثنى اللفظ المضاف؛ ولكن اللغة في استعمالها عاملت بعض الألفاظ معاملة خاصة؛ إذ ذكر سيبويه أنه يجمع في حالة خاصة، قال «كما لفظ بالجمع وهو أن يكون الشيئان كلُّ واحد منهما بعض شيء مفردٍ من صاحبه. وذلك قولك: ما أحسن رءوسهما، وأحسن عواليهما. وقال عز وجلَّ (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [4-التحريم]، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [38-المائدة]، فرقوا بين المثَّنى الذي هو شيءٌ على حدةٍ وبين ذا»(1).
ورأيت أن أفضل شرح وأوضحه قول ابن يعيش «اعلم أن كلَّ ما في الجَسد منه شيءٌ واحدٌ لا ينفصل كالرأس، والأنف، واللسان، والظهر، والبطن، والقلب، فإنّك إذا ضممتَ إليه مثلَه؛ جاز فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها الجمع، وهو الأكثر، نحو قولك: «ما أحسن رؤُوسهما! « قال الله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)[4-التحريم]. وإنّما عبّروا بالجمع، والمرادُ التثنية من حيث إنّ التثنية جمعٌ(2) في الحقيقة؛ ولأنه ممّا لا يُلْبِس ولا يُشكِل؛ لأنّه قد عُلم أنّ الواحد لا يكون له إلا رأسٌ واحدٌ، أو قلب واحد، فأرادوا الفصل بين النوعَيْن، فشبّهوا هذا النوع بقولهم: «نحن فعلنا»(3)، وإن كانا اثنين في التعبير عنهما بلفظ الجمع. وكان الفرّاء يقول: إنّما خُصّ هذا النوع بالجمع نظرًا إلى المعنى(4)؛ لأنّ كلَّ ما في الجسد منه شيءٌ واحدُ فإنّه يقوم مقامَ شيئَيْن، فإذا ضُمّ إلى ذلك مثلُه، فقد صار في الحكم أربعةً، والأربعةُ جمعٌ. وهذا من أصول الكوفيين الحسنة، ويؤيّد ذلك أنّ ما في الجسد منه شيء واحد؛ ففيه الدِّيَةُ كاملةٌ كاللسان والرأس، وأمّا ما فيه شيئان، فإنّ فيه نصفَ الدية(5).
والوجه الثاني التثنية على الأصل وظاهرِ اللفظ، نحو قولك: «ما أحسنَ رَأْسَيْهما وأسلمَ قلبيهما! « قال الشاعر [الفرزدق]:
بِمَا في فُؤادَيْنا من الهَمِّ والهَوَى
فيَبْرَأُ مُنْهاضُ الفُؤادِ الـمُشَعَّفُ
فأمّا قول خِطام الـمُجاشِعيّ:
ومهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ
ظَهْراهما مِثْلُ ظُهورِ التُّرْسَيْنْ
جِبْتُهما بالنَّعْت لا بالنَّعْتَيْنِ
فإنَّ الشاهد فيه تثنيةُ (الظَّهْر) على الأصل. والكثيرُ الجمع لما ذكرناه مع كَراهيةِ اجتماع التثنيتَيْن في اسم واحد؛ لأنّ المضاف إليه من تمام المضاف. يصف مفازة قَطَعَها، والـمَهْمَهُ: القَفْرُ، والقَذَفُ بالفتح: البعيدُ، والـمَرْتُ: الأرض التي لا تنبُت، كأنّهما فَلاتان لا نَبْتَ فيهما، ولا شخصَ يُستدلّ، فشبّههما بالتُّرْسَيْن. وجَمَعَ بين اللُّغتَيْن بقوله: (ظهراهما مثل ظهور الترسَيْن). وقوله: (جُبْتُهما بالنعت)، أي: خرقتُهما بالسير، أىِ: بأنْ نُعِتَا لي مرّةً واحدةً.
والوجه الثالث: الإفراد، نحو قولك: (ما أحسن رأسَهما!) و(ضربتُ ظَهْرَ الزيدَيْن). قال الشاعر [الفرزدق]:
كأنه وَجْهُ تُرْكِيَّيْن قد غَضِبَا
[مُسْتَهدِفٌ لِطعانٍ غير مُنْجَحِرِ]
وذلك لوضوح المعنى؛ إذ كلُّ واحد له شيءٌ واحدٌ من هذا النوع، فلا يُشْكِل، فأتى بلفظ الإفراد، إذ كان أخفّ.
فإن كان ممّا في الجسد منه أكثرُ من واحد، نحو: (اليَد)، و(الرِّجْل)، فإنّك إذا ضممته إلى مثله، لم يكن فيه إلا التثنيةُ، نحو: (ما أبسطَ يَدَيْهما، وأخف رِجْلَيْهما!) لا يجوز غيرُ ذلك، فأمّا قوله تعالى: (وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَارِقَةُ فَاَقْطَعوَأ أَيدِيَهُمَا)[38-المائدة]، فإنّما جمع؛ لأنّ المراد الأيْمانُ، وقد جاء في قراءة عبد الله بن مسعود (فاقطعوا أيْمانَهما). وكذلك المنفصل من نحو (غلام)، و(ثوب)، إذا ضممت منه واحدًا إلى واحد، لم يكن فيه إلا التثنية، نحو: «غلامَيْهما»، و»ثَوْبَيْهما» إذا كان لكلّ واحد غلامٌ وثوبٌ. ولا يجوز الجمعُ في مثلِ هذا؛ لأنه ممّا يُشْكِل ويُلْبس، إذ قد يجوز أن يكون لكلّ واحد غِلْمانٌ وأثوابٌ، وقد حكى بعضُهم(6): (وَضَعَا رِحالَهما)، كأنّهم شبّهوا المنفصل بالمتّصل، وهو قليل، فاعرفه»(7).
وأما ابن مالك فخالف عن هذا الترتيب، فجعل الجمع فالإفراد فالتثنية، قال «فلفظ الجمع أولى به من لفظ الإفراد، ولفظ الإفراد أولى به من لفظ التثنية»(8). واعترضه أبو حيان قال «وهذا الذي ذهب إليه المصنف من أن الإفراد أولى من التثنية في هذه المسألة هو خلاف ما ذهب إليه أصحابنا، ذهبوا إلى أن الأفصح الجمع ثم التثنية. وأما الإفراد فقال شيخنا أبو الحسن بن الضائع: (فأما لفظ المفرد فلم يأت إلا في ضرورة أو نادر كلام) ... وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور ... وذلك قليل جدًا لا ينبغي أن يقاس عليه»(9).
والخلاصة إن كان المفرد جزءًا من غيره كالقلب ونحوه جُمع للتثنية ما لم يلبس وجازت التثنية، تقول: قلوبكما أو قلباكما، وإن ألبس قلت لتثنية نحو (عين) المضافة (عيناهما)، وإن كان منفصلًا فليس سوى التثنية، تقول: كتاباكما.
**__**__**__**__**__**
(1) الكتاب لسيبويه، 3/ 621-622.
(2) انظر: الكتاب لسيبويه، 3/ 622.
(3) هذا قول الخليل، انظر: الكتاب لسيبويه، 3/ 622.
(4) معاني القرآن للفراء، 1/ 307.
(5) انظر: المدونة للإمام مالك بن أنس، 4/ 638.
(6) ذكر ذلك بتفصيل سيبويه، انظر: الكتاب لسيبويه، 3/ 622.
(7) شرح المفصل لابن يعيش، 3/ 210-212.
(8) شرح التسهيل لابن مالك، 1/ 106.
(9) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 2/ 69.