د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تبدو كثير من خرائط المكان أمام الوعي وكأنها مسارات ارتقاء جديدة يعيش فيها الإنسان، ويظن محيطها اكتشافات جيولوجية مثيرة تعجز الأبحاث عن تحليل مكوناتها!
وتأسيساً على ذلك فلا يمكن أن نعرف التنظيم الطبيعي إلا من خلال الوعي بأهميته والقناعة بوجوده، وانعدام الوعي بالأهمية والحاجة للتحضر ينجمُ عنه وجود ثلة من النافرين من حضارة اليوم؛ وقد يتخطفهم الحنين إلى ما هو دون ذلك تحت ضغوط الحياة الحديثة إن لم تُبسَّط لهم مفاهيم تلك الحضارة حتى تملأ الفراغات العريضة في أرواح هؤلاء ونفوسهم، وإن بقيت الحياة مهمة صعبة فإنه يجب اجتيازها بالوعي أولا وأخيرا.
وحتما يسيل الوعي بسخاء فوق طاولات الأذهان النيرة لأن الواقع دائماً ما يصبح استثناءً حين يكون إطار التخطيط ممنهجا مدروسا بعناية، ولا يتزعزع عندما تضع الأزمات أوزارها؛ ولا يُخفي حقائق الانجاز ولا يزيفها أو يظهرها خلاف واقعها؛ إنما هي عبقرية الوعي وحدها التي تُملي ما نريد قوله والإعلان عنه.
وقد يُسدل الستار خلف الأمجاد الماضية نتيجة حضور فاخر جديد؛ كما أن الوعي بالمنجز المثمر حتما سوف يشتعل في خرائط مكانية أخرى لديها معانٍ اجتماعية معظمة، تستوعب لقطات الفكر، وتنشغل به وله.
وكما أن المطر هو أحد وسائل الخلاص من موات المكان، ومن جدب الأرض، ومن ظلمة الليالي الحالكة، وهو هبة إلهية في إضاءات مائية تنشر في الأرض بواعث الحياة، وتجلب دواعي النماء، فإن الإنسان الحكيم لابد أن يملك صنوفاً من ثقافة الوعي مثلما هو المطر في غزارته وانصبابه، حتى يسقطها على موات عقله وفوضى سكونه؛ ليعمر مكانه؛ ويستجلب بواعث الحياة والحركة فيه يقول ابن دريد:
إنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
ونحن البشر، عندما نخشى ضجر الحياة بنا ومنا؛ لا بد أن نشتري الحكمة من بين بضائع العقول؛ لتكون لنا دثاراً، ولتكون اللغة التي تتحدث بها نفوسنا برؤاها وأحلامها، بين إقبال وانكسار؛ عندها نستطيع أن نتجاوز مغبة الخلط بين ما يجب أن يبقى أصيلاً في نفوسنا، وإن أحرقه الهجير، وما يتحول إلى محض آثار، وأطلال عفت محلها فمقامها! ولأن صور الوعي عند العقلاء دائماً ما تقترح صورا أخرى قد تستند في مجملها إلى الظن في تفسير المواقف العابرة وغير العابرة، فإن العقلاء يجب أن تكون لديهم مهارة استشراف المستقبل البداية والنهاية؛ ويجب أن يعرفوها أصنافاً وأوصافاً.
كما أنه من الأهمية ربط المعطيات المعرفية عن الواقع بالفهم الصحيح، وألا يستند فيه إلى رؤى سابقة؛ كانت تقف لتحافظ على حياتها في خريطة ذلك المكان فحسب..
قال الحكيم الخبير: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُالأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (139) سورة آل عمران.
كم نحن في حاجة ملحة إلى حزم من الوعي فهو أحد الأسباب التي تجعل الحياة تتخلص من أطواقها المعتمة..
ولعلها فروض زمن ألجأت النفس لمجاراتها. وقد تكون اختلافات في النظرة إلى الأولويات، أو أهداف لا تلتقي في مبدأ، ولا تسير في مصلحة. وهنا تكون المفارقة..
حين يعلو الإيثار يدعمه الوعي، وحين حيازة الخبرات يدعمها الوعي، وعندما يرتوي الفكر يسنده الوعي ولما تتحقق سلامة التوجه فعمودها الوعي،وعندها يكون الإصلاح مطلباً يقوده الوعي ويكون استجلابه ليس من الخوارق، ولا من فلتات الزمن، وتكون الفضائل نحن أحق بها وأهلها. وعندما تسمو النفوس ويتشكل الوعي!!
وثقافة الوعي تتطلب اكساب الأفراد مهارات منذ الصغر، مع حزم من المعرفة.
فنعلم الأجيال كيف يحصلون على المعرفة وفي الزمن ذاته نعلمهم النقد والحوار والبحث وإبداء الرأي؛ وبذلك يستنبت الوعي وتكون الرؤى الحديثة زهواً وطنياً، ولن يزهر ذاكرة الناس إلا اختراع الثقافات والفرح والجمال، والوعي الثقافي يرقبُ وثب العقول بكثير من الشوق، ويجعل قلوبهم تخفق مع كل حجر يضاف إلى البناء الوطني، وتتمدد ابتساماتهم مع كل زهرة تتساوق في النمو والتعملق والتحدي في بلاد عظيمة توزع الحب والقوة وتجعلها تنهمر على كل حبة رمل في أرض الوطن وعلى كل نبتة حية في مجاهيلها فالحجم الحضاري لبلادنا اليوم يلزمه ارتفاع في منسوب الوعي للقيمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبلادنا فيجب علينا جميعاً أن نستوعب الضوء الذي يحيطنا؛ ولا استيعاب دون وعي وثقافة!