سلطان مصلح مسلط الحارثي
لا حزن يعادل حزن رحيل غالٍ عليك في هذه الحياة، فرحيل الغالين فاجعة سيبقى لها أثر كبير في قلب كل محب، ولن تزول بمرور الأيام، وتعاقب السنوات، وإن حاولت عبثاً النسيان، ستعيدك الذكريات، وكأنها تقول: كيف تنسى الأحبة.
بالأمس، صُدمت وصُعقت بخبر جعلني ارتعد وأرتعش، وشل لساني عن الحديث، ومنعني من الرد على جميع الاتصالات، خبر لم يكن له أي مقدمات، وهنا تكمن الفاجعة التي جعلت عقلي لا يستوعب الخبر.
رحل سعود العتيبي (أبو طلال)، هكذا قال المتصل، كنت نائماً، ففزعت ورميت الهاتف، وكأنني لا أود تصديق هذا الخبر، هززت رأسي، وظننت أنني بحلم، وجلست استدير في الغرفة، دون أن أعلم ماذا أفعل، وهل هذا الخبر صحيح أم أنه حلم؟ رجعت أبحث عن هاتفي، نظرت للرسائل، فإذا بالخبر صحيح!
فاجعة، صدمة، قل ما شئت عن رحيل أخ لم تلده أمي، أخ كنت أجده في فرحي وحزني، أجده في كل فرحة، فرحاً بفرحي، وأجده في كل أحزاني وآلامي، وكأنه قطعة مني، وكل ما يصيبني يصيبه، لا زلت اتذكر اتصالاته المتكررة (شبه يومي)، حينما مرضت أمي -رحمها الله- مرضها الأخير، كان يحاول إخراجي من حالة الكبت التي رافقتني أسابيع، يضحك ويمزح، ولا يغلق هاتفه حتى يسمع ضحكتي.
سعود بن عبدالعزيز العتيبي (أبو طلال)، عاش كريماً عزيز النفس، ومات كريما عزيز النفس، لم يستفد من مهنته التي أخلص لها، وعاش فيها أكثر من أربعة عقود، فقد توفي دون أن يمتلك بيتاً يأويه وزوجته، وظل يتنقل من شقة لأخرى، دون أن يمد يده لأحد، أو يطلب من أحد، وقد كان بإمكانه أن يحصل على قصر فاخر، لو أراد ذلك، ولكنه لم يفعل، وكان أميناً في زمن كانت فيه الأمانة لدى البعض مرمية على قارعة الطريق!
عرفت أخي الذي لم تلده أمي، وحبيبي وصديقي سعود العتيبي منذ أكثر من 17 سنة، جمعتني به المهنة، كأستاذ كبير، ومخضرم خبير، استفدت منه أيما استفادة، جالسته كثيراً، وجمعتنا الاتصالات أكثر، كان مرحاً بشوشاً، يخفي عن الجميع آلامه وهمومه، ولكنني أتسلل إليه بعض الأحايين، فاكتشف أن هذا الجبل الشامخ، يحمل هموماً لا يستطيع حملها بشر، ولكنه ظل صامداً في وجهها، يبتسم وفي خلف ابتسامته آلام لا تُقاوم.
في الأشهر الأخيرة، عاش فترة حرجة مع شقيقه (بدر) نسأل الله أن يشفيه، فكان يحكي لي بعض التفاصيل التي لا يمكن أن يحكيها لأحد غيري، فكنت اتألم من ألمه، وكان يقول لي، لم يبق من وقت بدر شيء، وسبحان الذي أحيى بدر، وأخذ سعود، وهذا مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}.
رحل سعود العتيبي، وقد ترك لنا إرثاً عظيماً، في مجال الإعلام بشكل عام، والرياضي بشكل خاص، بعد أن قضى فيه أكثر من أربعة عقود، تخرج من بين يديه العديد من الإعلاميين الرياضيين، وكان له فضل على أغلب الإعلاميين الرياضيين الحاليين، وبالرغم من ذلك لا يجيّر له أي فضل، وكلما تحدث معه أحد بمدح أو ثناء، قاطعه حتى يسكت، وهذا قد لاحظه الجميع، خاصة بعد أن شارك في بعض المساحات الرياضية، وقد عرفه الجمهور جيداً، وعرفوا أخلاقه وأدبه.
رحل سعود، وترك لنا فراغاً لن يستطيع سده أحد، رحل سعود وترك فيني جرحاً غائراً لن يندمل ما حييت، رحل سعود وبقيت اشتكي ألم فراق الأحبة، ووداعهم دون وداع، وهذه أقسى من الرحيل نفسه.
رحل سعود، الإعلامي والخبير الذي لم نشبع منه، فقد اختاره الله إلى جواره، وهذا قضاء الله ولا راد لقضاء الله، إلا أنني تمنيت لو كتب لنا المزيد من خواطره التي كنت أستمتع بها، متمنياً لو شاركها الجميع، ولكن تبقى بعض تغريداته في موقع x شاهدة عن العمق الفكري الذي كان يتمتع به.
رحل سعود، وأي رحيل هذا ياسعود، هذه هي ثاني فواجعي في أقل من سنة، فأنا لم تلتئم جراحي بعد أن فقدت أمي -رحمها الله- قبل أشهر، فإذا بهذا الخبر ينزل علي كالصاعقة، فسعود بالنسبة لي ليس أستاذاً لي دفعني للتأليف دفع محب، وأصر على استمراري في الإعلام والوسط الرياضي، لا لا، هو بالنسبة لي أكثر من ذلك، هو أخ لم تلده أمي، أخ كان يوجهني وينصحني، أخ لم يدخر وسيلة لنجاحي إلا وقدمها لي، أخ لم أكن أتخيل أن أفقده في أي لحظة، ولكن هذه إرادة الله وحده ولا راد لإرادته.
مات سعود العتيبي، هكذا رددوها، ولكن عقلي حتى هذه اللحظة التي اكتب فيها لم يستوعب الخبر، ولعل هذه وحدها تكفي ليعذرني القارئ عن تقصيري نحو أستاذ مخضرم، لم ينل حظه في الشهرة الدنيوية، وظل يتخفى عن عيون الكاميرات، غير آبه بالأضواء، وهو ابن الإعلام، الذي كتب ذات يوم («أنا من ضيع في الإعلام عمره»)، وهانحن اليوم ياسعود، نضيع في مراحل حياتنا بفقدك، نضيع ولا نعلم ماذا نكتب، وماذا نترك، ضعنا يا أبا طلال بفقدك، فوالله لم أفقد بعد أمي وأبي -رحمهما الله- أعز وأغلى منك، فقد كنت الأخ والصديق والرفيق، وكنت السند الذي اتكئ عليه، وكنت الموجه والناصح، وكنت الأستاذ والقدوة.
بفقد سعود العتيبي، فقدت جزءا مني سبقني للآخرة، وبفقد سعود فقدت رجلا صادقاً مخلصاً وفياً محباً، وبفقد سعود فقدت العضد الذي أعتمد عليه حينما تُغلق كل الأبواب، فأجد باب أبي طلال مشرعاً لأجد الراحة والطمأنينية.
سعود العتيبي، الكريم الذي لا يبقى شيء في جيبه، وله قصص في هذا المجال تُحكى لتبقى شاهدة على عطائه الذي لا يود منه غير الدعاء.
ذات يوم قابل امرأة في سوبر ماركت، كانت تقف عند صاحب سيارة فخمة، تطلب منه العون، فلم يُلب طلبها، نزل سعود من سيارته، بعد أن بحث فلم يجد إلا قيمة أغراضه التي كان ينوي شراءها، فأخذها ومنحها المرأة، وعاد لبيته دون أن يشتري ما أراد، هكذا هو سعود العتيبي، الشهم الكريم المعطاء، طيب السيرة ونقي السريرة، الذي كان يحثني على الصدقة، وفي كل مرة يقول أنها باب لجلب الخير، وصد للشر.
رحم الله أبا طلال وغفر له، رحم الله الطود الشامخ الذي لن يُعوض، رحم الله أخي وصديقي سعود العتيبي، فلن أنساه ما حييت، وكيف للإنسان أن ينسى قطعة منه!
وداعاً.. سعود العتيبي، ونسأل الله أن نلتقي بك في جنات النعيم، وداعاً سعود العتيبي، وداعاً أخيراً لن نلتقي بعده في هذه الحياة، وداعاً أخي وصديقي، أودعك بالدموع التي تتناثر على وجنتي، أودعك بالحب والوفاء، أودعك وأعدك أن تبقى بقلب أخيك ما بقي حياً.