د. طارق بن محمد بن حزام
حين يشتد الجدل، ويعاند كل طرف متمسكًا بما يراه الحقَّ الذي لا يأتيه الباطل، نغفل عن أن الخلاف في جوهره ليس أكثر من اختلاف زوايا نظر، وأن الطريق إلى التفاهم لا يُسدّ إلا حين نرفع رؤوسنا لندّعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
كيف يليق بنا أن نحاصر الكون الفسيح - وهو بحر بلا شطآن في قوالب، ضيقة لا تتجاوز مدار كوكبنا؟ كيف نقنع أنفسنا بأن معارفنا المحدودة ميزان للكون كله؟ هنالك يتكسر الجسر بين القلوب، ويتحول الحوار إلى صراعٍ لانهاية له.
لقد ألفنا -عن قصد أو غفلة - أن نصف المخالف بالجهل، نلقي عليه أوصافًا ترفعنا لحظةً فوقه، غير أن تلك الأوصاف لاتصنع إلا وهمًا هشًّا بالتماسك، وتترك في أعين الآخرين صورة المتعجرف المغرور.
ومع توالي الأيام، تتكشّف لنا الحقيقة شيئًا فشيئًا أن هذا الكون أوسع من أن يحويه عقل وأن المعرفة مهما اتسعت فهي شُعاع صغير في ليل طويل. وحينذاك، لا مناص لنا من التواضع، ولا مفر من أن نبحث عن سلامٍ مع أنفسنا وسط عواصف الشك والجدال.
قد نتهم غيرنا بالجهل، ويُتَّهمنا آخرون بالدّاء ذاته؛ فذلك بعض ما يفرضه الطريق لكن الأجمل أن ندرك أن قيمة النقاش ليست في كسب الغلبة، بل في الإصغاء إلى المختلف بلا تسفيه، وفي أن نؤمن بأن احترام الرأي الآخر واجب دينيا قبل أن يكون خُلقًا إنسانيا.
إني لأشفق على من يظن أن العلم قد أوتيه كله، في وقتٍ يعلن فيه العلم ذاته عجزه عن الإحاطة بالكون.
وفي قصة موسى مع الخضر درس بليغ في التواضع، والاعتراف بالفضل؛ إذ وقف موسى الكليم، وهو النبي المرسل، متعلّمًا عند عبدٍ صالح أوتي من علم الله ما لم يؤتَ هو. وفي ذلك بيان أن رفعة العالم تكون بقدر ما يحمل من تواضع للحق، وإقبال على طلبه حيثما كان، ثم يكتمل المشهد حين نسب موسى العلم إلى الله تعالى بقوله: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ}، ليذكّرنا القرآن أن كل علم فيض من فضل الله، وكل حكمة قبس من نوره. وما أجمل أن نعيد قراءة الآخر بصفاء، وأن نتأمل الاختلاف كفسحة راحة لا كمنطقة صراع. فما الحوار في جوهره إلا حوار المحبّين، وما أبهى أن نكسر جدران الغرور لنفتح نوافذ الرحابة.
إن الهدوء كلمة تبدأ منها كل سكينة، والعاصفة كلمة تنتهي بها كل مودة، ولو تحدث الناس بما يعرفون فقط، لساد الهدوء مساحات شاسعة من هذا العالم.
فلنبدأ إذن بكلمة سواء بيننا رقيقة، قبل أن يسبقنا الصخب.. فكل سلام يولد من حوار هادئ.