الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أباح الإسلام المزاح واعتبره مستحباً إذا كان لطيفاً ويجلب السرور للآخرين دون مخالفة شرعية، ونهى في الوقت نفسه من كثرته والمداومة عليه، حيث إن ذلك يميت القلب ويسقط الهيبة، وربما يكون له عواقب وخيمة على صحة الإنسان.
وقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة كثرة المزاح بين أوساط الشباب والفتيات، بصورة تدعو للقلق والاشمئزاز جراء التصرفات الطائشة الرعناء التي يقومون بها، والتباهي بها في وسائل التواصل الاجتماعي.
«الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من المختصين في العلوم الشرعية والطبية والتربوية والقانونية حول تلك الظاهرة.
آداب وضوابط
يقول الدكتور محمد بن عبدالله الخضيري أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة القصيم سابقاً، نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة بريدة، النفس البشرية تحتاج لشيء من الترويح وخاصة بعد الكد والعمل فتتحدث وتبتسم وتمزح باعتدال ووفق آداب وشروط وهذا من سمو الشريعة الإسلامية التي تحقق نداء الفطرة بإتيان المباحات، ولهذا سمحت بالمزاح المنضبط، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمزح ولكن لا يقول إلا حقاً، وسُئل ابن عمر -رضي الله عنهما-: «هل كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحكون «قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل: الجبال، ومن خلال النظر للشريعة نجد أن هناك آداباً وضوابط للمزاح، منها:
1 - ألا يكون المزاح في أمور الدين يفضي للاستهزاء والسخرية كمن يستهزئ ويسخر بشيء من أحكام الإسلام كالحجاب واللحية أو شيء من العبادات كالصلاة والصوم والحج.
2 - أن يحرص المسلم على الصدق وعدم الكذب فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ويل للذي يُحدث فيكذب ليُضحك به القوم ويل له) رواه أبو داود.
3 - الحذر من الترويع والتخويف وامتهان ما يسمى المقالب، خاصة ممن لديهم نشاط وقوة أو معهم سلاح أو قطعة حديد ويستغلون المفاجآت أو ظلام الليل وربما يتقصدون الغافلين والضعفاء أو الصغار وضعف الناس ليكون فيكون في ذلك سبباً للترويع والتخويف ثم الاستخفاف وإضحاك الناس على الضحية، وقد كان بعض الصحابة يسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل فأخذه ففزع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود.
4 - تجنب الاستهزاء والغمز واللمز:
فتجد بعض ضعاف النفوس -أهل الاستهزاء والغمز واللمز- قد يجدون شخصاً يكون لهم سُلماً للإضحاك والتندر فيكثرون عليه من المزح المفرط والتلفظ بما يجرح بحجة أننا نمازحه ولا يعلمون قدر الأثر النفسي عليه وقد نهى الله -عز وجل- عن ذلك فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)، قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله-: «اتقوا المزاح، فإنه حمقة تورث الضغينة».
5 - ومن الضوابط كذلك أن لا يكون المزاح كثيراً بحيث يغلب على المازح هذا الأمر ويصبح ديدناً له، وهذا عكس الجد الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاح فسحة ورخصة بقدرها لاستعادة الجد والنشاط فلا يصح أن يكون هو الأصل الغالب ويكون الجد هو النادر، وفي هذا يقول عمر بن عبد العزيز: (اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة).
وقال سعد بن أبي وقاص «اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرّئ عليك السفهاء».
6 - ومن الضوابط أيضاً ألا يكون فيه غيبة:
وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض أنه يحاكي حركات البعض بطريق التنقص وهو داخل في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ذكرك أخاك بما يكره) رواه مسلم.
7 - ومن الضوابط اختيار الأوقات المناسبة للمزاح:
كأن تكون في رحلة برية، أو عند ملاقاة صديق، تتبسط معه بنكتة لطيفة، أو طرفة عجيبة، أو مزحة خفيفة، لتدخل المودة على قلبه والسرور على نفسه، أو عندما تتأزم المشاكل الأسرية ويغضب أحد الزوجين، فإن الممازحة الخفيفة تزيل الوحشة وتعيد المياه إلى مجاريها.
تأثيرات محتملة
ينبه الدكتور صبري باجس زيادة استشاري جراحة العظام بالرياض إلى أن مزاح الكبار الجسدي مع الأطفال قد يبدو في الظاهر بسيطًا أو ممتعًا، لكن في الواقع يمكن أن تكون له آثار سلبية إذا لم يكن بطريقة مناسبة أو بحدود آمنة.
وكشف د. صبري زيادة أهم التأثيرات المحتملة:
1 - الإصابات الجسدية: حيث إن المزاح الذي يتضمن شدّاً أو دفعاً أو ضرباً خفيفاً قد يؤدي إلى كدمات أو التواءات أو حتى إصابات خطيرة مثل كسور العظام، والطفل قد لا يملك القوة أو القدرة على حماية نفسه.
2 - تشويه الإحساس بالحدود الجسدية: قد يختلط على الطفل الفرق بين المزاح المقبول والاعتداء، فيفقد إحساسه بخصوصية جسده، ويمكن أن يجعله أكثر عرضة لقبول سلوكيات مؤذية من الآخرين.
3 - زيادة العدوانية: الأطفال يتعلمون بالتقليد؛ فإذا اعتادوا على المزاح الجسدي الخشن من الكبار، قد يكررونه مع أقرانهم، وقد ينظرون إلى العنف على أنه وسيلة للتسلية.
4 - الخوف أو القلق: بعض الأطفال لا يعبرون عن انزعاجهم بشكل مباشر، لكن قد يشعرون بالخوف أو القلق عند رؤية الكبار يقتربون منهم للمزاح، وهذا يضعف شعورهم بالأمان.
5 - تأثير على الثقة بالعلاقة: حيث إن المزاح الجسدي الزائد قد يُضعف ثقة الطفل بالكبار، لأنه لا يعرف متى يكون اللعب ممتعًا ومتى يتحول إلى شيء مؤلم.
خفيف الظل
يشير الأستاذ صالح بن ناصر العُمري الخبير التربوي إلى أن المزاح من الأمور المحببة للنفس وأحد دواعي السرور والسعادة، وكثيراً ما يحب البشر الشخص المزوح ذا الروح المبهجة أو ما يسمى «خفيف الظل»، فهم يبحثون عنه ويشتاقون للقائه.
هذا بالمختصر مفهوم المزح، لكن في نفس الوقت هؤلاء الناس تختلف طباعهم ومفاهيمهم عن المزح وتقبلهم لنوعيته.
وفي الآونة الأخيرة مع انتشار وسائل التواصل أصبحت المزحة أو الطرفة المقبولة تجد صدى سريعاً في المجتمع ينشرونها ويتداولونها بينهم بشكل واسع، لكن ظهر أشخاص (خاصة من الشباب والفتيات) لم يُحسِنوا تقديم أنفسهم واعتقدوا أن أقرب وسيلة لإعجاب الناس ومحبتهم هي النكتة؛ فبعضهم للأسف (يعتقد أنه ظريف وخفيف دم) فيُلقي الهابط من الكلام بشكل مُزرٍ ثقيل على النفس فتجده (من باب المزح والاستظراف) يجرح هذا ويستهزئ بآخر وينتقص من ذاك بشكل لا يقبله عقل ولا يميل له شعور ولا إحساس، وبالتالي هذه الشخصية يتحاشاها الناس ويبتعدون عنها وعن الجلوس معها، وبعضهم لا يُحسِن توقيت مزحته حتى لو كانت ظريفة، وهناك من يمزح مع أناس لا يعرفهم وهناك من لا حدود لمزحه ولا خطوط حمراء لديه إلى آخره.
واختتم صالح العُمري بقوله إن لقبول المزحة عند الناس أحكاماً وقوانين لابد من أخذها بعين الاعتبار:
أولها: ألا تكون من باب السخرية والاستهزاء.
ثانياً: ألا تكون خادشة للحياء في ألفاظها أو مدلولاتها.
ثالثاً: أن تكون مناسبة للمتلقين وعقلياتهم وأعمارهم (فالنكتة أو المزحة الموجهة للصغير لا تقال للكبير والعكس).
رابعاً: أن تكون في وقتها المناسب.
المزاح شائع
يؤكد الأستاذ خالد بن محمد المشيقح المحامي والمستشار القانوني أن المزاح بين الناس في مجتمعاتنا، يشيع وفي مناسبات شتى، ومما لا شك فيه أن المزاح مباح للمسلم، ولكن بحدود وضوابط معينة لو حاد عنها وتجاوزها كانت له نتائج سيئة قد لا يحمد عقباها، ومن هذه التجاوزات المبالغة في المزاح فيكون بصفة دائمة أو شبه دائمة؛ فيؤدي ذلك إلى سقوط هذه الشخصية من أعين الناس وقلة هيبته وعدم احترامهم له، كما أن كثرة المزح تصيب بموت القلب وقد يجلب أيضاً العداوة.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: قال العلماء: المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، والفكر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، وأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله.
وعليه: فالاعتدال وعدم الإفراط في المزاح هو المطلوب، كذلك لا ينبغي أن يقترن المزاح بتصرفات مشينة أو كلام بذيء يتنافى مع الدين والأخلاق والعرف.
نسأل الله -عز وجل- كما أحسن خلقنا أن يحسن أخلاقنا، وأن يهدينا سواء السبيل.