د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
صاحب المعالي أستاذي الجليل العلامة أ.د. أحمد محمد الضبيب هو كما وصفه أستاذنا أ.د. عبدالعزيز المانع في قوله «أستاذنا العالم الجليل الدكتور الضبيب أستاذ عالم بحر من أي النواحي أتيته، فهو: لغوي، أديب، محقق، مترجم، شاعر، وقَلّ أن تجتمع هذه الصفات إلا في أمثاله»(1). وأزيد على ذلك المعلّم المعجميّ سادن العربية، الإداري.
المعلم:
بادرت وقد علمت أن الدكتور الضبيب سيعلمنا الأدب الجاهلي والأموي إلى اقتناء كتاب الدكتور شوقي ضيف (الأدب الجاهلي) وبدأت قراءته استعدادًا لفهم الدروس. كانت المفاجأة لنا جميعًا أن أستاذنا العزيز دخل علينا وبيده شرح المعلقات السبع للزوزني، وهكذا وضعنا مباشرة أمام نصوص الشعر الجاهليّ، وبدرس شموليّ كانت قراءة كل فرد بالتناوب والشرح والتحليل، كان علينا لذلك أن نستعد بقراءة تلك القصائد لنحسن قراءتها في الفصل، وطالبنا أستاذنا بالتحليل الأسلوبي الأدبي لتلك القصائد مراعين أثر الجرس في التعبير عن مضامين القصائد وعلاقة المعجم بمقتضيات الوفاء بالتعبير عن تلك المضامين، كل واحد منا كان يجتهد في كتابة تحليله القصيدة ثم يأتي ليقرأها أمام الزملاء ليناقشها الآخرون مناقشة ناقدة مستفيدين جميعًا من ملاحظات أستاذنا وتوجيهاته، بدأت محاولاتنا ساذجة سطحية أول الأمر ثم أخذت تتحسن مع الوقت، ولست أنسى ما وقع بيني وبين أستاذي من الخلاف في بيت لبيد بن أبي ربيعة:
مِن کلِّ ساريةٍ وغادٍ مُدجِنٍ
وعشيّةٍ متجاوبٍ إرزامُها
إذ كنت حين كتبت محللًا قصيدته زعمت أنه استعمل (مدجن)، وما فيها من تنوين وهبها رقًّة لا تناسب صورة السحب المتراكمة برعودها، فقال أستاذي بل هي مصورة بجرسها وما فيها من تفخيم الميم المضمومة والدال المنفجرة والجيم الشديدة، ثم إنه ملأ فاه بالكلمة وهو يلفظها ليقنعني؛ ولكن العناد استولى عليّ، فلفظتها متعمدًا ترقيقها، فصار يلفظها مفخمة وألفظها مرققة. فلما استيأس مني تركني بعنادي لأدرك بعد ذلك أني أخطأت. وسمعني مرة أنشد قول جرير:
يُكَلِّفُنِي فُؤَادِيَ مِنْ هَواهُ
ظَعَائِنَ يَجْتَزِعْنَ عَلَى رُمَاحِ
فأنكر عليَّ فتح الياء من (فؤاديَ) واحتجّ بأنه غير منصوب، وسكتُّ؛ لأني لما أكنْ أعلم أنَّ ياء المتكلم تفتح وتسكَّن. وما كان فتحي للياء إلا امتزاجًا لذلك، وتبين لي بعدُ أنَّ الفتح هو الأصل(2).
كانت تجربة قراءة القصائد وشرحها ثم كتابة تحليل لها ثم عرضه لنقد الزملاء تجربة ثرية وتدريبًا مبكرًا على مزاولة العمل العلمي، ولم يكتف أستاذنا بهذا بل كلفنا قراءة كتب تتعلق ببعض القضايا المهمة في تاريخ الشعر الجاهلي فقرأنا كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) لناصر الدين الأسد، وقرأنا ما كتبه طه حسين وغيره عن قضية الانتحال، ومن أهم التجارب العلمية المبكرة التي عرضنا لها أستاذنا تكليفه لنا صنع معجمات مفهرسة لدواوين مختارة من الشعر الجاهلي وكان علينا أن نفهرسه كلمة كلمة. فصنعت معجمًا لديوان امرئ القيس، وكان لصنع المعجم أثره في تدريبنا على دقة العمل والتصنيف والصبر على العمل الشاق.
كان أستاذنا مع لطفه ودماثة خلقه حازمًا، أذكر أنني تأخرت عن تحليل بائية ذي الرمة:
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الـمَاءُ يَنْسَكِبُ
كَأَنَّهُ مِنْ كُلى مَفْرِيَّةٍ سَرِبُ
كانت الاختبارات النهائية على الأبواب، وكنت أريد الانصرف إلى الاستعداد لها، فرجوته أن يقيلني من تحليل القصيدة وقد كانت آخر التكاليف؛ ولكنه رفض رفضًا باتًّا، ثم إني دفعت بزميلي الغامدي ليتوسط لديه فرده ردًّا حازمًا، فوجدت نفسي ملزمًا بذلك التحليل، فكان أكثر ما كتبت توفيقًا بشهادة أستاذي الذي وجه بعض طلابه الذين خلفونا إلى قراءته.
اللغوي:
علمنا أستاذنا دروسًا في علم دراسة اللهجات ولهجات العربية مستوى من مستوياتها اللغوية، وقفنا على أهم مفردات هذا العلم وأهم رواده الباحثين مثل الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس وتلميذه أ.د.عبدالعزيز مطر. ومما يتصل بذلك اهتمامه بالتراث اللغوي قديمه وحديثه فكان أن أنشئ متحف للتراث الشعبي زرناه مع أستاذنا لنرى بالعين أنواع الأسلحة والأدوات المختلفة التي تعبر عن الماضي، وفي جانب آخر أرسلت بعثات من الطلاب النابهين إلى بيئات لغوية مختلفة للجمع الصوتي للغة المستعملة في وقتنا الحاضر. ويأتي في هذا الإطار الترجمة.
المترجم:
كان لاهتمام أستاذنا باللغة العربية الأصيلة المتصلة ترجمة ما كتبه (جونستن) عن لهجات ساحل الجزيرة لشرقي «دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية». وأذكر أن أستاذنا فاجأنا بزيارة مؤلف هذا الكتاب (جونستون) فألقى أمامنا كلمة قصيرة عن كتابه وذكر أنه اكتشف تقاربًا في لهجة البدو في عنيزة والبدو في الكويت، فاستأذنت لأعلق على هذا بقولي إن البدو في الكويت هم البدو في عنيزة يرحلون بلغتهم، فهناك لغات للمناطق ولغات للقبائل ترحل معها.
المحقق:
إن خير من يشهد لهذا الجانب شيخ من شيوخ المحققين وهو أستاذنا عبد العزيز المانع إذ كتب في العدد التكريمي للدكتور الضبيب في نشرة الخميسية في مركز حمد الجاسر الثقافي موضوعًا عنوانه «الدكتور الضبيب محققًا، كتاب الأمثال لأبي فيد السدوسي أنموذجًا»، قال «إن المطلع على عمل الدكتور الضبيب في هذا الكتاب سَيُفَاجَأ كما فوجئت بهذا العمل المتميز الذي يوحي إليك أن محققه قد أمضى سنوات طوال في ممارسة التحقيق لكي يخرج الكتاب بهذا المستوى من الدقة والإتقان».
نشر هذا الكتاب أول مرة في العدد الأول من مجلة الآداب في جامعة الملك سعود، 1390ه/1970م، ص 231- 345. وطبع الكتاب أيضًا في السنة نفسها، طبعته مطابع الجزيرة، وقال لنا أستاذنا إنه حين أوشك على الانتهاء من تحقيق الكتاب علم أن ثلاثة آخرين يهمون بتحقيقه ونشره فكاتبهم في ذلك فكف اثنان منهم، وأصرّ الثالث على المضي في التحقيق، وكان هذا زميلًا له في القسم، وظهر تحقيقه في (1983م).
ومن الطريف ما سمعناه من أستاذنا عن مراجعة تجارب طباعة الجزيرة؛ إذ قال له الطابع: إنّ الكتاب عظيم ممتاز؛ ولكنْ فيه أخطاء كثيرة، فقد رأيتك مرة تكتب (أبو فيد) ومرة (أبا فيد) ومرة (أبي فيد)؛ ولكن اطمئن، فقد صححت ذلك كله(3).
ومن تحقيقه «كتاب الأمثال الصادرة عن بيوت الشعر» لأبي عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني، دار المدار الإسلامي، 2009م.
وأستاذي ناقد للأعمال المحققة كما تبين في كتابته المفصلة بعنوان (نظرات في كتاب معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري، تحقيق عبدالله غنيم وعبدالعزيز المانع) نشر في مجلة معهد المخطوطات العربية مج 64، ج2، نوفمبر 2020م. وهذه النظرات دروس في التحقيق وهبها مستوعب للتراث خبير بتحقيقه. ومن كتبه المهمة في هذا الميدان (على آثار المحققين: أبحاث ودراسات نقدية) نشرته مكتبة الرشد، 1445ه/ 2024م.
للقول صلة
**__**__**__**__**__**
(1) «الدكتور الضبيب محققًا كتاب الأمثال لأبي فيد السدوسي أنموذجا» لعبدالعزيز المانع، نشرة الخميسية، مركز حمد الجاسر الأدبي، - العدد السادس - ربيع الأول 1431هـ، ص2.
وقوله «من أي النواحي أتيته» اقتباس من مدح أبي تمام المعتصم:
هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ … فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ ساحِلُه
(2) انظر: معاني القراءات للأزهري، 2/ 46، والصحاح ، 6/ 2562.
(3) فعالية بعنوان «كتابي الأول القصة الكاملة» قيصرية الكتاب -ساحة العدل بمنطقة قصر الحكم- الرياض، 3-11-1444ه/ 23-5-2023م.