واس - الرياض
افتتح صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن فيصل بن عبدالعزيز، رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، بحضور معالي المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر، وصاحبة السمو الملكي الأميرة مها بنت محمد بن فيصل، الأمين العام للمركز؛ الاحتفالَ الرسمي بيوم المخطوط العربي في دورته الثالثة عشرة لعام (1447هـ – 2025م)، الذي أقامه المركز أمس بالتعاون مع معهد المخطوطات العربية، تحت شعار «المخطوط العربي: حياة أُمّة ورائد حضارة»، وذلك في مقر المركز بالرياض.
وأشار الأمير تركي بن فيصل في كلمته الافتتاحية إلى أن هذا اليوم يستدعي ذاكرة الفكر، وتصغي فيه الروح إلى صدى القرون، مؤكدًا أن مركز الملك فيصل يشرف باحتضان الاحتفاء بيوم المخطوط العربي؛ اليوم الذي لا يُعنى بالمادة بقدر ما يُعنى بالمعنى، ولا يخلّد الورق بل يخلّد الوعي الذي سُطّرت به هوية الأمة العربية والإسلامية.وأفاد سموه أن استضافة المركز لهذه المناسبة ليست من قبيل المصادفة، فمنذ أكثر من خمسين عامًا، وتحديدًا في السابع عشر من محرم عام 1393هـ (19 فبراير 1973م)، استقبل الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- بعثةَ معهد المخطوطات العربية بمدينة الرياض، بالقرب من موقع الحفل، في لقاءٍ لم يكن استقبالًا تقليديًا، بل ومضةَ فكرٍ وبادرةَ رسالةٍ أضاءَ فيها الملك فيصلُ مكانةَ التراث العربي رافدًا أصيلًا للهوية ونبعًا دائمًا للثقافة الأصيلة.
وأشار سموه إلى توثيق مدير المعهد آنذاك الدكتور صلاح الدين المنجِّد تلك اللحظة التاريخية في مجلدين خالدين، وقدّر الله أن يتقاطع هذا التاريخ مع إنجازٍ آخر حين نال اثنان من مديري المعهد العريق جائزة الملك فيصل العالمية، هما الدكتور حسين نصار -رحمه الله- عام 1424هـ، والدكتور عبدالله الغنيم عام 1437هـ، وكأن الجائزة ردّت التحية لمن خدموا المخطوط ووهبوا أعمارهم لصون ذاكرة الأمة.
وفي ختام كلمته نوّه سموه بما يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظهما الله – من عنايةٍ ودعمٍ كريمٍ للعلم والمعرفة وصون التراث الوطني والعربي والإسلامي، مؤكدًا أن ما بدأه الملك فيصل قبل خمسة عقود مع معهد المخطوطات العربية، يواصله أبناؤه وأحفاده اليوم بوعيٍ معاصرٍ والتزامٍ ثقافيٍّ أصيل، يجسد رؤية القيادة الرشيدة في تعزيز مكانة الثقافة والمعرفة في نهضة الإنسان والمجتمع.
من جانبه، أشار معالي المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) إلى أن الاحتفاء بيوم المخطوط العربي في رحاب مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية يجسد تواصل الأمة مع ذاكرتها الحضارية، ويؤكد مكانة المملكة بوصفها حاضنة للثقافة العربية وراعية للتراث الفكري الأصيل.
وأبان معاليه أن اختيار معهد المخطوطات العربية لمركز الملك فيصل شريكًا في تنظيم هذا الحدث الثقافي اختيار موفق، يعكس التقاء رسالة المؤسستين في خدمة التراث العربي، وتأكيد دور المركز الرائد في إثراء المشهد العلمي والثقافي على المستويين المحلي والعربي.
وفي نهاية كلمته، وجّه معالي الأستاذ الدكتور محمد ولد أعمر، الشكر إلى مركز الملك فيصل، وصاحب السمو الملكي الأمير تركي بن فيصل، وصاحبة السمو الملكي الأميرة مها بنت محمد بن فيصل، على ما يبذلانه من جهود كبيرة في خدمة الثقافة العربية والإسلامية وصون التراث المخطوط، مؤكدًا أن هذا التعاون يجسّد الدور الرائد للمملكة في رعاية المعرفة والمحافظة على الهوية الحضارية للأمة.
بعدها استهلّ مستشار المركز الدكتور عبدالرحمن الخنيفر، فقرات الاحتفال بكلمةٍ رحّب فيها بالحضور، مؤكدًا أن يوم المخطوط العربي مناسبةٌ تتلاقى فيها الأزمنة والأمكنة، إذ تمتدّ بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة لتصافح الدرعية والرياض في فضاءٍ واحدٍ يحتفي بالكتاب المخطوط، مشيرًا إلى أن احتضان مركز الملك فيصل لهذه الدورة هو تتويجٌ لمسيرةٍ طويلةٍ من العناية بالتراث العربي وصونه، امتدت عبر آلاف العناوين والرحلات العلمية التي حفظت للمخطوط العربي حياته وضياءه عبر القرون.
وجرى خلال الحفل تكريمُ الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد من (المملكة العربية السعودية) شخصيةَ العام للبحث التراثي بالوطن العربي، الذي عبر في كلمته خلال الحفل، عن سعادته بهذا التكريم، مؤكدًا أن التراث ليس ماضيًا يُستعاد فحسب، بل أداة حية لفهم المجتمع وتطور الحياة الفكرية عبر العصور، داعيًا إلى إعداد كشاف آلي عام لكتب التراث يربط مصطلحاتها وموضوعاتها وفق منهج علمي دقيق ييسّر على الباحثين دراستها واستثمارها المعرفي.
كما كُرّم «المَخبر الوطني لصيانة وترميم الرقوق والمخطوطات بالقيروان..تونس» مؤسسةَ العام للعمل التراثي بالوطن العربي، وعبّرت مديرة المخبر الدكتورة منال رماح، عن اعتزازها بهذا التكريم، مؤكدة أنه تتويج لتونس ومؤسساتها الثقافية، واعتراف بريادة المخبر في حفظ المخطوط العربي والإسلامي، وترسيخ الهوية الثقافية للأمة، وحمايتها للأجيال القادمة.
واختير كتاب «جامع فرائد الملاحة في جوامع فوائد الفلاحة»، تحقيق الأستاذ الدكتور إحسان ذنون الثامري (العراق)، بوصفه كتابَ العام التراثي بالوطن العربي، وعبّر الدكتور الثامري عن اعتزازه بهذا التكريم في يوم المخطوط العربي، مؤكدًا أن هذا الاختيار تقديرٌ لجهدٍ علمي طويل في تحقيق الكتاب الذي يُنشر للمرة الأولى بوصفه عملًا موسوعيًا يوثّق التراث الزراعي العربي وما انطوى عليه من خبرات ومعارف، مشيرًا إلى أن العناية بالمخطوط العربي حفظًا وتحقيقًا وتكريمًا يعد توقيرًا لماضينا واعترافًا بعظمته بين الحضارات.
ويأتي احتضان مركز الملك فيصل لهذه الفعالية؛ في سياق رسالته الراسخة في صون التراث المخطوط، وتعزيز حضوره جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية للأمة، فمنذ تأسيسه عام 1403 هـ/ 1983م، جعل مركز الملك فيصل العناية بالمخطوطات من أولوياته الكبرى؛ ليصبح أحد أبرز المراجع العالمية في هذا المجال، محتفظًا بنحو 30 ألف عنوان مخطوط، ونحو 150 ألف مخطوط مصوَّر جرى تصويرها بالتعاون مع كبريات المكتبات والمتاحف العالمية. وإلى جانب ذلك، امتدت إنجازاته في المعالجة والتعقيم والترميم لتشمل حوالي 330 ألف كتابٍ ومخطوطٍ ووثيقة، في إضافةٍ نوعيةٍ أكدت ريادته، وأبرزت مكانته منصة علمية وثقافية متجددة تنقل هذا الإرث العظيم إلى الأجيال المقبلة.