العلاقة بين الإنسان والمكان علاقة تفاعل وتصالح راسخة الجذور، ولها ذاكرة تُستَنْطَق منها العِبَر، وتُسْتَلهم الإنجازات، وفي إطار هذه الدائرة أحاول أن أبرز أهم خصائص المكان والزمان في ذاكرة جزء من وطننا الحبيب: «الحريق» في مناسبة غالية على قلوبنا (اليوم الوطني) وفي إطار جهود مؤسسة ثقافية تعدّ لساناً وطنياً (جريدة الجزيرة العريقة) التي تسعى دوماً إلى إبراز ثراء الوطن في موروثه الثقافي، وسأجتهد في إضاءة بعض الصور من الطابع الثقافي والتاريخي والاجتماعي لمحافظة الحريق، وبيان أثر ذلك في ربط الماضي بالحاضر، وصياغة الوعي في الجيل الجديد، بالهوية الوطنية.
وعن الحريق أكتب، ليس عن الحجر والطين، بل لأحكي قصة عشقٍ بين الأرض والإنسان، بين ذاكرة الأمس وإشراقة اليوم، حيث نجدد العهد بأن نكون كما كان أجدادنا؛ نزرع، ونبني، ونحفظ الهوية، ونرفع راية الوطن عاليةً خفّاقة، في الحريق كما في كل شبرٍ من أرض السعودية.
محافظة الحريق تعدّ واحدة من الحواضر العريقة في قلب نجد، تنبض ذاكرتها بالتراث، بما تحمله من تاريخٍ ضاربٍ في الجذور، وذاكرةٍ تختزن ملامح الماضي، وعبق الموروث الشعبي، فهي ليست مجرد رقعة جغرافية تحتضن البيوت القديمة، والمزارع والعيون، بل هي فضاءٌ حيٌّ، تتجاور فيه جهود الأجداد والآباء مع طموحات الأبناء والأحفاد؛ لبناء مستقبل يليق بالوطن وأهله.
هناك، في حضن نجد، حيث تتعانق الجبال والوديان، وتفوح رائحة الطلع من نخيلٍ عريق، تقف محافظة الحريق شاهدةً على سفر طويل من الصبر والعطاء. هناك، بين أزقة البلدة القديمة، تروي الحجارة حكايات رجالٍ ونساءٍ غرسوا حب الوطن في القلوب قبل أن تغرس أياديهم فسائل النخيل في الأرض. نعم فليست البلدة القديمة أطلالاً صامتة؛ بل هي كتاب مفتوح على حكايات البذل، وأغانٍ صدح بها المزارعون بين المزارع، وهمسات جَدَّاتٍ يَسْكُبْنَ الحكمة في مسامع الصغار. كل نافذةٍ فيها، وكل ظل نخلةٍ باسقة، يوقظ فينا شعور الانتماء، ويذكّرنا أن الهوية ليست كلماتٍ نحملها، بل هي جذورٌ عميقة نعيش بها ونحيا لأجلها.
في موروث الحريق تتجلى روح الأرض؛ في أمثال تَحْفَظُ العبرةَ، وأهازيجَ تضيء ليالي الفرح، وقصائدَ تحاكي الكرامة والوفاء، هذا الموروث ليس للتسلية فحسب، بل إنه جسرٌ متين يَصِلُ حاضرَنا بماضِينا، ويمدّنا بالقِيَم التي صَنَعَت هذا الوطن.
ورد ذكر الحريق في عدد من الأخبار التاريخية والقصص الأدبية، وتحدث عنها عدد من المؤرخين والأدباء.
وعند ابن خميس، في تاريخ اليمامة (334-339): الحريق: بلدة في أعلى وادي نعام عامرة بالسكان والنخيل والمزارع بناها وغرسها رشيد بن مسعود بن فاضل الهزاني الجلاسي الوائلي، وتداولتها ذريته من بعده، وكَثُروا وقويت شوكتهم وكَبُر شأنهم، وهي الآن بلدة ناهضة، يوجد فيها إنتاج زراعي جيد، وفي وقتنا هذا يُعرَض موسمُه في مهرجان سنوي متميِّز، بمصاحبة فعاليات إنتاجية وثقافية؛ تنمي وتُؤَصِّر الهوية الوطنية.
تقع الحريق جنوب الرياض حاليًا، حيث عُرِفت المنطقة بهذا الاسم منذ منتصف القرن الحادي عشر الهجري، ومنذ سنة 1328هـ انضمت الحريق إلى الهيكل الإداري الصادر في عهد الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه -.
ومن معالمها الأثرية والحضارية: الحسينية التي تقع جنوب شرق مركز نعام، وفيها آبار وقصور أثرية قديمة ويوجد فيها درب عجلان الذي يحاذي جبل طويق حتى يَتَوَسَّطُه، ومقبرة حوشة، والصومعة التي بها قصر أثري قديم وهي مزرعة قديمة في الجانب الشرقي من مركز نعام.
وفي الحريق لا يوجد ما يُضاهي جمال اطلالة جبل طويق، أهم المعالم الجغرافية في الجزيرة العربية، وأحد أبرز المعالم الطوبوغرافية التي يمكن رؤيتها من الفضاء الخارجي، حيث تعد حافة طويق أبرز ظاهرة جيومورفولوجية في نطاق إقليم الحافات، وهي الحافة الوحيدة التي تحتفظ باسم واحد رغم امتدادها الكبير، اكتسب الجبل معرفة كبيرة لدى العالم الخارجي من بعد ما ذكره صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- في مقولته التي يصف بها همة الشعب السعودي الشامخة التي تشبه جبل طويق الذي يتميز بالصلابة والثبات: «همة السعوديين مثل جبل طويق ولن تنكسر».
البلدة القديمة في الحريق ليست أطلالاً ساكنة، بل ذاكرة نابضة، تروي قصص الكفاح والعمل الدؤوب، وتوثّق ملامح الحياة اليومية التي عاشها الأسلاف في الزراعة والتجارة وبناء البيوت الطينية، وفي التجمعات التي كان الموروث الشعبي فيها وسيلة للتواصل والتعبير عن الفرح والألم معاً. فإحياء هذه الذاكرة ليس مجرد استدعاء للتاريخ، بل هو تنشيط لروح المكان كي تبقى حيّة في وجدان الأجيال.
وحين يطل علينا اليوم الوطني، تتسع المسافة بين القلب والذاكرة، ونستشعر أن الحريق ليست مجرد محافظة، بل رمزٌ من رموز الوطن الكبير، ففيها تتجلى روح السعودية؛ أصالةً تستند إلى الماضي، ونهضةً تعانق المستقبل، ليظل العهد متصلاً بأن نكون أبناءً أوفياء، وأحفاداً يواصلون المسيرة، فتزداد نخيلُ الوطن اخضراراً؛ كلما سقيناه وفاءً وحباً وانتماءً.
والموروث الشعبي في الحريق، والتراث من أمثال وقصص وأشعار وأهازيج، قادر على أن يكون رابطاً متيناً بين الماضي والحاضر، ليعكس منظومةَ قيمٍ أصيلة. ومن الجميل أن يعاد الاعتبار والاتعاظ لهذه القيَم عبر المهرجانات الثقافية والفعاليات الشعبية، وعبر الإصدارات الثقافية المتميزة؛ لأن ذلك سيُعيد للمجتمع توازنه، ويجعل الأبناء أكثر التصاقاً بجذورهم.
فإذا كان الآباء والأجداد قد أسسوا بناء البلدة، وحافظوا على تراثها، المادي، وغير المادي؛ فإن مسؤولية الأبناء والأحفاد اليوم تتمثل في تجديد الوعي بالهوية الوطنية، عبر حماية المواقع التاريخية، وتوثيق الحكايات الشفوية، والاستثمار في مبادرات سياحية وثقافية، تجعل من الحريق مقصداً معرفياً وسياحياً؛ على أساس أن حفظ ذاكرة الوطن هي قلبُ الانتماء له؛ فالانتماء للوطن ليس فقط في الدفاع عنه، بل أيضاً في صيانة هويته، وإبراز جمالياته للأجيال القادمة.
وفي هذا السياق فإن مشروع إحياء البلدة القديمة في الحريق وتمتين صلات الجيل الجديد بتراث أسلافه، ليس مجرد مبادرة محلية، بل هو امتداد للرؤية الوطنية الشاملة التي تُعْلِي شأنَ الهوية السعودية، وتؤكد أن التنمية لا تنفصل عن الذاكرة، وأن التقدم لا يتحقق إلا بجذور ضاربة في الأصالة. ثم إن هذا المقال محاولة مني أو دعوة مفتوحة لكل جيل؛ كي يقرأ ذاكرته، ويحتفي بموروثه، ويجعل من بلدته الحريق، وكل جزء من وطننا الحبيب؛ رمزاً متجدداً للهوية الوطنية السعودية؛ فإذا كان الأجداد قد تَعِبُوا في غرس النخيل وشق قنوات الماء، فإن الأبناء والأحفاد اليوم يحملون أمانة أعظم؛ هي غرس الوعي، وحماية ذاكرة المكان والزمان والمجتمع، كي يعيدوا للبلدة القديمة وَهَجَها، لتبقى مرآةً صافية، تعكس ملامح الهوية الوطنية السعودية، فالمسؤولية اليوم لا تقف عند حدود صيانة أو ترميم التراث، بل تتجاوزها إلى إحياء الروح، وبعث الحياة في الموروث، وبخصوصِ الحريق يجب العملُ الجاد؛ لتعريف العالم أن في قلب نجد مدينةً تَحْكِي قصةَ وطن.
** **
أ. بشاير بنت راشد الهزاع - باحثة في التأريخ والتراث