في الأيام الماضية، تناقلت منصات التواصل الاجتماعي صورة مأخوذة من حسابي الشخصي على (لينكد إن)، تحمل ملامح من خبراتي الوظيفية ومسيرتي المهنية، لتتحول سريعًا إلى مادة للنقاش على منصة (إكس) بين من رأى فيها نموذجًا يُحتذى به ورمزًا للشباب الطموح، ومن قرأها من زاوية النقد أو التشكيك، وتنوعت الآراء وتباينت التعليقات، بعضها حمل إشادة وتشجيعًا، وبعضها الآخر أثار تساؤلات أو انتقادات. هذا الجدل يفتح بابًا واسعًا للتأمل في طبيعة حضور الشباب السعودي في الفضاء الرقمي، وكيف تتحول التجارب الفردية إلى قضايا رأي عام، تتقاطع فيها الرؤى بين الدعم والتحفيز من جهة، والاختلاف في التفسير والحكم من جهة أخرى.
لقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مختبرًا حيًّا لأساليب الشباب اللغوية والفكرية، ومرآة لثقافة جيل يواجه تحديات التغيرات السريعة والتطورات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، وساحات تتشكل فيها الآراء وتُبنى الهوية الرقمية، والبحث عن الحقيقة مع مطاردة (الترند). فما بين نقاشات عن قضايا وطنية واجتماعية، وحوارات عن الرياضة والفن، إلى غيرها من الموضوعات، وصولا إلى آراء عن تجارب الآخرين، كل هذا يُشكل خريطة اهتمامات واسعة، يحاولون من خلالها صُنع وعي عام، أو فتح نوافذ جديدة على المستقبل. هذه المنصات تُظهر لنا أساليب الشباب بمختلف أطيافهم: فمنهم الطالب الذي يحمل أحلام الغد، وحديث التخرج الذي يطرق أبواب المستقبل، والباحث عن العمل، والطموح الذي لا يعرف المستحيل والساعي للنجاح، في مقابل المتشائم الذي يُعلّق عجزه على صعوبة الطريق وعلى الواسطة أو الظروف.
تغريدة واحدة كشفت ثراء التجربة الشبابية، فلم يكن تفاعل الشباب على منصة (إكس) ذا نمط واحد، فلقد تباينت أساليب التعبير وكشفت عن لوحة متنوعة من الأساليب والاتجاهات. إذ رأينا كلمات مختصرة، وجمل مقننة المعاني، أو الاكتفاء بالرموز التعبيرية التي يرون أنها تحمل أكثر من دلالة بدلًا من الكتابة، والمزج بين اللغة الفصحى واللهجات المحلية، هذا الحضور الرقمي يبرز مدى تطور لغة الشباب التي تختلف عن أي زمن مضى.
وكذلك اختلف الطرح فمنهم من اختار الأسلوب الإيجابي المشجع، فكتب تغريدة تُثني على التجربة وتبرز قيمة الطموح والجهد، معتبرًا أن نشر مثل هذه الخبرات يحفز الآخرين ويزرع الأمل فيهم. وفي المقابل هناك فريق آخر فضل النقد المباشر مستخدمًا لغة حادة أو ساخرة أحيانًا، مشككًا بهذه الخبرات، وظهرت بين أسطره لغة لاذعة مليئة بالأحكام السلبية والعبارات غير الموزونة.
وبين هذا وذاك ظهر أسلوب ثالث متوازن، صاغ تغريداته بلغة هادئة جمعت بين طرح الرأي الصريح والتشجيع، والنقد البناء. فلم تعد المنصة مجرد مساحة للبوح بأحرف قليلة، بل أصبحت متنفسًا يجابه فيه الشباب ضغوطاتهم ويعبرون فيها عن طموحاتهم وأحلامهم. هذا الفضاء الرقمي يعكس بدقة ثنائية الشباب بين التفاؤل والتشاؤم، وبين التمسك بروح الأمل والانزلاق إلى الاستسلام.
ويعكس هذا التنوع في الأساليب اختلافات جوهرية في أساليب الشباب في منصة (إكس) التي تعتمد على عدة عوامل منها: المزاج الشخصي، والعامل النفسي، ومستوى التعليم، والواقع المعاش. مشهد بسيط جسّد لنا كيف يستطيع الشباب أن يكسب أي طرح حيوية المشهد الرقمي، إذ تحول حدث صغير إلى ساحة تنوعت فيها التجارب وبرزت فيها مهارات التعبير عن الرأي والنفس، مع درجات كبيرة من المشاعر المختلفة ما بين الرفض والقبول والمساءلة والبحث عن معلومات ذات صلة بالشخصية المتحدث عنها، كل ذلك يدل على سرعة تداول المعرفة، وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية، وبناء شبكات واسعة من التفاعل والحوار الشبابي، وهي لا تخلوا من التحديات المؤرقة التي تتمثل: في انتشار الشائعات، والتنمر الإلكتروني، وسطحية الخطابات، وانجراف البعض وراء بعض الآراء دون وعي، مما يجعلنا أمام هدف يستدعي وعيًا رقميًا مسؤولًا يوازن بين حرية التعبير وضبط الخطاب. نحن نرى التناقضات، لكننا نرى أيضًا الأمل، والبحث عن الذات، والطموح الذي لا يهدأ. ومن هنا، فإن قراءة أسلوب الشباب على هذه المنصة ليس مجرد متابعة للظواهر الرقمية، بل هو قراءة في قلب ثقافة جيل يسعى لأن يكون حاضرًا في معادلة الوطن والعالم. والواجب أن نسأل أنفسنا: كيف نستثمر هذا الحراك الرقمي الشبابي في التنمية الوطنية؟ ونحول مثل هذه التغريدات العابرة إلى مشروع مثمر مؤثر.
وكذلك علينا أن ندرس الأسلوب الإيجابي للشباب الذي يجمع بين الأصالة والابتكار والطموح والسعي لكل جديد، إن دراسة أسلوب الشباب ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة ثقافية واجتماعية تكشف لنا عن كيف يعيد هذا الجيل صياغة اللغة والتعبير في فضاء سريع التغيّر، ولعل هذا يجعلنا نقول إن هذه المنصات ليست مجرد مساحات رقمية، بل وثائق حية لهوية الشباب في عصر الذكاء الاصطناعي. وسط كل هذا الجدل وتباين وجهات النظر، تبقى الحقيقة الأوضح أن الطموح لا يُقاس بمَنْ يكون من يحمله؟ ولا بعدد الشهادات والمؤهلات، بل يُقاس بمدى إصرار صاحبه على المضي قدمًا. إن اختلاف الآراء حول هذه التغريدة لا ينبغي أن يُثني الشباب عن السعي وراء أحلامهم، فالمستقبل لا يصنعه الشاك والمتردد، بل يصنعه أولئك الذين يغامرون ويجربون ويتعلمون من كل خطوة، ويطمحون ليعانقوا عنان السماء.
ولذلك، تبقى الرسالة الأهم: ابنوا شغفكم، واصنعوا من تجاربكم دروسًا تُنير طريقكم، ولا تخشوا من اختلاف الناس أو تعدد تفسيراتهم. فكل تخصص، وكل حلم، وكل مجال، له مكانة في مسيرة التنمية والبناء. وما دام في القلب إيمان وفي العقل فكرة، فلن يضيع الأمل، بل سيكبر يومًا بعد يوم حتى يصبح واقعًا ملموسًا، مهما طال الأمد.
ولعلي أختم بهذه العبارة إنّ اللغة العربية مجال رحب للإبداع وإنعام النظر بكل ما تحتويه من مفردات وأساليب ومناهج، وهي كفيلة بتخريج حذاق قادرين على الدخول إلى سوق العمل بكل براعة واقتدار شريطة أن يحولوا هذه المعرفة إلى مهارات وهذه المهارات إلى مخرجات وهذه المخرجات إلى منجزات نفاخر بها جميعًا.
** **
مريم بنت صالح الشويمان - باحثة دكتوراه، وخبيرة في توسيم البيانات