د.زيد محمد الرماني
هناك آراء على طرفي نقيض حول هذا السؤال اليسير ظاهريًا، ويعكس الجدل الدائر حول البلدان النامية هوة عميقة مشابهة في مجتمعنا بين أولئك الذين يعتقدون أن الأفراد الفقراء هم فقراء بسبب عوامل ضمن سيطرتهم، ومن يعتقدون أنهم فقراء لعوامل لا يد لهم فيها.
هكذا بين تيمونز روبيرتس رؤيته ضمن كتابه «من الحداثة إلى العولمة»، بل وطرح السؤال المهم التالي:
من الملوم؟ الفقراء أم مجتمعهم؟!!
لقد تكرر هذا الجدل في كلاسيكيات قديمة، إذ لم يعد محصورا في المفكرين فقط، إنه سرعان ما يحلل خطاب السياسيين ودوائر الأعمال واتحادات العمال والمدافعين عن الفقراء.
وهناك تماثل مثير للدهشة بين تلك النقاشات الوطنية الحادة والنقاشات حول سبب فقر البلاد الفقيرة وما يجب عمله بشأنها.
لماذا تبقى بعض البلاد فقيرة ومتخلفة على رغم الانفتاح على الرأسمالية، وعلى مظاهر أخرى للحياة الحديثة؟ ماذا يمكن فعله لجعل الرأسمالية تنمو إلى مدى أبعد في تلك البلاد؟ تلك كانت الأسئلة التي وجهها فريق من المنظرين الذين أثرت أفكارهم بشدة في جهود أمريكا، لتعزيز تنمية الرأسمالية في البلاد الأفقر التي دعيت حينئذ بـ (العالم الثالث).
بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت الولايات المتحدة نفسها وحيدة على قمة بنية القوة العالمية، كانت الأمة الوحيدة، من كلا جانبي الحرب التي لم تصب بنيتها التحتية من طرقات وجسور وأبنية وبنوك بأذى، وكان لها شبه احتكار للتقنية الحديثة، وصناعتها في مصانع تؤهلها لإنتاج السلع التي تباع بسعر عالٍ في أرجاء العالم، ولكن نمو اقتصادها كان سيظل محصورًا في حدودها من دون تفعيل الاقتصادات لشراء هذه المنتجات، وكانت مساعدة أوروبا وآسيا على استعادة عافيتها هي الشيء الصحيح المفترض القيام به، والفشل في القيام بذلك قد يخاطر بالسماح للشيوعية بالانتشار، لذلك وضعت خطة مارشال لمساعدتهم في إعادة البناء.
لقد كان السياسيون وخبراء التنمية والأكاديميون خائفين من أن تقرر شعوب أمريكا اللاتينية وإفريقيا أن الشيوعية طريق للتنمية أكثر ضمانًا من الرأسمالية، وردًا على ذلك قدمت نظريات التنمية التي ولدت في الخمسينات والستينات في أمريكا حلًا لا شيوعيًا واضحًا للفقر والتخلف.
ورأت مجموعة من خبراء التنمية الذين لهم تأثيرهم، ثلاث مشكلات واضحة تعيق التصنيع في البلاد الفقيرة، فأولًا: لم تكن الشركات هناك كبيرة بما يكفي لإنشاء المصانع الحديثة المطلوبة للتنافس مع شركات القوى الكبرى في أوروبا وأمريكا الشمالية، وثانيًا: سمحت قدرة الشركات العالمية على تحصيل مقادير كبيرة من رأسمال في تلك البلاد المتقدمة بتطوير وتبني تقنيات جديدة باستمرار، وذلك ما كان ينقص البلاد الفقيرة بشكل موجع، وثالثًا: وهو الأمر الأكثر أهمية: أنهم رأوا في الملامح الثقافية والمؤسساتية والتنظيمية للبلاد الفقيرة عقبات في طريق محاولتها للنمو والتحول إلى الديمقراطية.
ولفهم الفجوة بين الدول الأكثر غنى والدول الأشد فقرًا، سبر منظرو التحديث عملية التنمية وقدموا لوحة مركبة لما يعنيه أن تكون حديثًا.
وبعد عقدين من التحكم في دوائر التنمية، تعرضت نظرية التحديث لهجوم من زوايا عدة، فأولًا:
أصبح ينظر إليها على أنها نظرية لا تاريخية، إذ فشلت في إدراك الفوارق بين البلاد أو الأقاليم أو الشروط البنيوية أو الخبرات التاريخية الخاصة.
فمثلًا لم يعالج منظرو الحداثة حقيقة أن هذه الأقاليم الأشد فقرًا لا تعكس حالة واحدة من الفقر أو نوعًا واحدًا من المجتمعات، بل وضعًا مركبًا لما قبل التحديث. وقد شكا النقاد بشكل متزايد من أن التحديث ما هو إلا كناية ملطفة عن «الأمركة»، وهي فكرة تدعمها قراءة أدق للعديد من المؤلفين الأوائل الذين ساروا على الدرب نفسه، وأعلن النقاد أن أسبابًا خارجية مهمة تسبب الفقر والتخلف قد أهملت.
ختامًا أقول: أعتقد أن علماء الاجتماع العاملين في مجال التنمية بحاجة إلى أن يكونوا مدركين للجدل الذي سبقهم، جلاءً لبصيرتهم وتجنبًا لتكرار الأخطاء القديمة، فعلى الرغم من أن مساعدة الأمم الفقيرة سبب كافٍ للاهتمام، بيد أن علوم التنمية الاجتماعية وأبحاث العولمة والنتائج البيئية للتنمية لا تدع مجالًا للشك في أن مصيرنا مرتبط بشكل معقد بمصير ثمانية بلايين من البشر نشاركهم الكوكب.