سارة الشهري
هل تذكرون تلك الأيام التي كنا ننتظر فيها عطلة نهاية الأسبوع كي نزور محل تأجير الأشرطة؟ كنا نقف أمام رفوف طويلة، نتأمل صور الأبطال على أغلفة كرتونية، نقرأ الوصف الخلفي كأنه وعدٌ سحري بليلة ممتعة. ثم نحمل الشريط إلى البيت بحذر، نخشى أن يعلق في جهاز الفيديو أو أن نكتشف أن الفيلم لم يكن كما توقّعنا. كانت تلك الطقوس، بكل بساطتها، جزءاً من متعة المشاهدة.
اليوم.. لا محل، ولا شريط، ولا جهاز فيديو. جاء (نتفلكس) ليضع كل تلك الرفوف في شاشة صغيرة، وليقدّم لنا مكتبة لا تنتهي من الأفلام والمسلسلات بلمسة واحدة. بدأت القصة عام 1997، حين أطلقت كخدمة لتأجير أقراص DVD عبر البريد في الولايات المتحدة. خطوة متواضعة، لكنها حملت فكرة جريئة لماذا نضيّع الوقت في المتجر إذا كان بالإمكان أن يصل الفيلم إلى باب البيت؟ ومع مرور الوقت أدركت الشركة أن المستقبل ليس في الأقراص ولا في البريد، بل في الفضاء الرقمي، فانطلقت في عالم البثّ عبر الإنترنت، لتتحول خلال سنوات قليلة إلى إمبراطورية الشاشة.
في عام 2016، شهدنا في الشرق الأوسط ولادة جديدة للمنصة بيننا. حين أعلن مؤسسها ريد هاستينغز من على منصة مؤتمر تقني عالمي دخول نتفلكس إلى أكثر من 130 دولة دفعة واحدة، كان من بينها بلداننا العربية. وشيئًا فشيئًا أصبحت نتفلكس جزءًا من سهراتنا، تُنافس جلسات المقاهي، وتزاحم المسلسلات الرمضانية في ليالي البيوت. بل إنها قدمت لاحقاً محتوى عربياً وأتاحت الترجمة والدبلجة، لتقول للمشاهد هنا أنا لست غريبة عنك.
لكن كل قصة نجاح تحمل في طيّاتها فصولًا من الجدل. نتفلكس لم تنجُ من ذلك، بل أصبحت في قلبه. أصوات كثيرة حول العالم اعتبرت أن المنصة تجاوزت حدود الترفيه، وبدأت تفرض أيديولوجيا بعينها داخل محتواها. وكان الملياردير الأمريكي إيلون ماسك من أبرز المنتقدين، إذ وصف نتفلكس بأنها مصابة بما أسماه (فايروس الووك) ورأى فيه تهديدًا للحضارة الإنسانية. بالنسبة له، لم تعد الحكايات تُروى لذاتها، بل غدت محكومة بعدسة العرق والجندر والدين، حتى بدا وكأن كل قصة يجب أن تحمل رسالة سياسية أو اجتماعية.
مصطلح (الووك) woke في الأصل كلمة إنجليزية تعني اليقظة أو الانتباه، وبدأ استخدامها من عام 2010 في سياقات حقوقية مرتبطة بمناهضة العنصرية والتمييز، خصوصاً ضد السود والأقليات. لكن مع مرور الوقت، تحوّل هذا المفهوم من دعوة للوعي الاجتماعي إلى أيديولوجيا شديدة الحضور، تفرض نفسها في السينما والأدب والسياسة.
الخطورة كما يصفها منتقدوها تكمن في أن WOKE لم يعد مجرد وعي بقضايا عادلة، بل أصبح أشبه بعدسة وحيدة يُنظر من خلالها إلى كل شيء. يُفسَّر الفن والسياسة والمجتمع وفق الهوية العِرقية أو الدينية أو الجندرية، حتى لو كان السياق بعيدًا عن ذلك. وهذا ما يسمّيه بعضهم (العنصرية المقلوبة) حيث تُستبدل التفرقة القديمة بنمط جديد من الإقصاء أو المبالغة في تمثيل الأقليات.
من هنا جاء وصف إيلون ماسك لها بالفايروس، لأنها بحسب رأيه تنتشر في الأعمال الفنية بشكل مبالغ فيه، وتحوّل القصص من كونها للمتعة والترفيه إلى منابر أيديولوجية مشحونة.
ولم يقف ماسك عند هذا الحد، بل دعا علنًا إلى مقاطعة المنصة بعد عرض مسلسل تحريكي للأطفال يتضمن شخصية مراهق متحوّل جنسيا. واعتبر أن تسويق مثل هذه الشخصيات على أنها مناسبة لمشاهدين في عمر السابعة (أمر غير طبيعي). أعاد نشر رسائل لمشتركين غاضبين ألغوا حساباتهم، وأعلن بنفسه أنه فعل الشيء نفسه. هذه الحملة لم تبق في حدود العالم الافتراضي، بل انعكست على البورصة حيث تراجع سهم نتفلكس في وول ستريت مع تصاعد الجدل.
هكذا نجد أنفسنا بين زمنين، زمن الشريط الذي كنّا نُدخله بخوف أن يلتهمه جهاز الفيديو، وزمن المنصة الرقمية التي تدخل بجرأة في تفاصيل حياتنا وأفكارنا. نتفلكس ليست مجرد وسيلة لمشاهدة فيلم أو مسلسل، بل مرآة لعصر كامل تتصارع فيه الحكايات مع الأيديولوجيات، والترفيه مع السياسة. والسؤال الذي يظل معلقاً: هل ما زلنا نبحث عن متعة القصة كما كنا نفعل أمام رف الأشرطة القديمة، أم أننا أصبحنا جزءاً من معركة أكبر تُخاض على شاشة صغيرة في زاوية من بيتنا؟