يُعدّ الفن التشكيلي إحدى أهم أدوات التعبير الإنساني التي تُترجم العواطف والمشاعر والتجارب الحياتية إلى لغة بصرية راقية تتجاوز حدود الكلمة. فالفنان التشكيلي لا يكتفي بنقل المشهد، بل يمنحه بعدًا وجدانيًا يعكس نظرته الخاصة إلى العالم، ويحوّل الإحساس إلى عملٍ فنيٍّ ينبض بالحياة والمعنى.
ومن خلال الألوان والملمس والظل والضوء، يختصر الفنان قصة الإنسان في علاقته بالبيئة والطبيعة والمكان. هذه البيئة هي المصدر الأول للإلهام، فهي التي تُشكّل رؤيته وتغذي خياله، ومن رحمها تولد المفاهيم الجمالية التي تعبر عن هويته وانتمائه ووعيه بالعالم من حوله.
من هذا المنطلق، احتضنت مؤسسة الفن النقي بالرياض مساء الأربعاء الثامن من أكتوبر 2025 معرض «بر وبحر» للفنانة البحرينية هلا آل خليفة، والقيم الفني للمعرض الأستاذة غيداء المقرن، والذي يستمر حتى السادس من نوفمبر 2025، ليقدّم تجربة فنية مفعمة بالدهشة والتأمل، تجمع بين الفن التقليدي والمفاهيمي المعاصر في تمازج بصري يثير التفكير ويوقظ الحواس.
حوار بين الصحراء والبحر
جاء المعرض كمحاولة لاستكشاف العلاقة العميقة والمنسية بين الصحراء والبحر، ليس كعنصرين متعارضين، بل كقوتين متكاملتين شكّلتا على مر العصور وجدان الإنسان وهويته الثقافية في الجزيرة العربية. ومن قلب الرياض، المدينة التي نشأت من حضن الصحراء وتطل نحو الخليج العربي، تدعو آل خليفة المشاهد إلى إعادة اكتشاف التوازن بين الجفاف والاتساع، بين الملوحة والرطوبة، بين السكون والموج.
المعرض يضم مجموعة مميزة من اللوحات والأعمال الفنية التي تتنوع بين الرسم بالألوان التقليدية والأحبار، والأعمال التركيبية المفاهيمية، إضافة إلى فيديو فني يوثّق لحظات الحركة والضوء والماء، مما منح المعرض قوة فريدة في مزج الفن الكلاسيكي بالتجارب المفاهيمية الحديثة. هذا التنوع منح المتلقي فرصة للتأمل في علاقة الإنسان بالمكان والطبيعة والذاكرة، وكيف يمكن للفن أن يكون جسرًا بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والابتكار.
تسعى الفنانة من خلال هذا العمل إلى إحياء الحوار الإنساني بين اليابسة والماء، بين جذورنا الممتدة في الصحراء وتطلعاتنا المنفتحة نحو البحر والمحيط. فالعمل الفني هنا ليس مجرد مشهد بصري، بل رحلة فكرية وشعورية تسائل الهوية والانتماء، وتعيد صياغة علاقتنا بالأرض والبيئة بوصفها امتدادًا للذات الإنسانية.
رحلة بصرية بين الرمل والموج
في أعمالها، تستخدم آل خليفة الرمزية المزدوجة للعنصرين: فالصحراء تمثل الصلابة والتأمل والسكينة، بينما يجسد البحر الحركة والسيولة والتغيير الدائم. وتكشف من خلال تكويناتها الفنية الدقيقة عن مدى تأثير الضوء والظل والملمس في تشكيل المعنى، وعن الحوار الخفي بين السكون والحركة، بين الحلم والواقع، وبين ما هو ملموس وما هو روحي.
كما يستعرض المعرض حكايات الهجرة والاكتشاف والتبادل الثقافي عبر الزمن، حيث كانت الصحراء والبحر مسرحًا للرحلات الكبرى التي شكلت ملامح الحضارات القديمة. فبينهما ولدت القصص، ونُسجت خرائط الملاحة، وتكونت مفاهيم المكان والهوية والانتماء.
هلا آل خليفة.. بين الفن والهوية
تُعد الفنانة هلا آل خليفة من أبرز الفنانات البحرينيات اللواتي جمعن بين الرؤية الجمالية العميقة والخبرة الأكاديمية، حيث تحمل درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة تافتس في الولايات المتحدة، والماجستير من كلية سلايد للفنون - جامعة لندن. وقد شغلت مناصب أكاديمية وثقافية متنوعة، وأسهمت في دعم المشهد الفني الخليجي من خلال مبادراتها وبرامجها الثقافية التي تعزز الحوار والتبادل الفني بين المبدعين.
تعكس أعمالها ارتباطها القوي بتراثها وهويتها الوطنية، وإيمانها بأن الفن هو وسيلة للتواصل الإنساني وبناء الجسور الثقافية.
دور المعارض الفنية في توثيق الثقافة
المعارض الفنية ليست مجرد فضاءات لعرض الأعمال الإبداعية، بل هي منصات فكرية وثقافية تنقل رسالة بصرية تعكس ملامح المجتمع وتوثّق تحولات الزمن. ومن خلال هذه المعارض، يتجلى الفن كوسيلة للحوار الحضاري بين الشعوب، وكمرآة تنقل القيم والتجارب والثقافات من جيل إلى جيل.
معرض «بر وبحر» يأتي مثالًا واضحًا على هذا الدور، إذ نجح في تقديم تجربة فنية عميقة تتجاوز الجمال البصري لتفتح بابًا واسعًا للتفكير في علاقة الإنسان بالمكان والطبيعة والوجود.