صرح البنك الدولي: «كوريا الجنوبية تعد نموذجًا عالميًا للتحول الاقتصادي السريع عبر التخطيط الاستراتيجي والابتكار».
في خمسين عامًا فقط ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية من أقل من 100 مليار دولار إلى أكثر من 1.8 تريليون دولار، لتنتقل من دولة تعاني الفقر إلى واحدة من أكبر القوى الصناعية والمصدّرة عالميًا، مما يثبت قدرة التخطيط الاقتصادي المركّز والاستثمار في رأس المال البشري على تغيير مسار الدول بالكامل. فكيف حدثت المعجزة على نهر الهان.
وضعت كوريا الجنوبية خطة تنموية تعتمد في التحول من اقتصاد يعتمد على الواردات إلى اقتصاد مبني على الصادرات. بعد الحرب العالمية الثانية ركزت في البداية على تطوير الصناعات الخفيفة كالنسيج لرفع معدل صادراتها وزيادة مصادر دخلها وفي السبعينيات الميلادية تحول تركيزها إلى الصناعات الثقيلة وركزت الحكومة خلال هذه الفترة بالاستثمار الكبير في التعليم والبحث العلمي حيث أسست في السبعينات الميلادية معهد كوريا المتقدم للعلوم والتكنولوجيا لدعم الابتكار والنمو في الصناعات المتقدمة مثل الالكترونيات وأشباه الموصلات.
ولجأت الحكومة أيضا إلى القطاع الخاص من خلال الشركات الكبيرة المحلية التي أغلبها شركات مملوكة لعائلات كورية وقدمت مميزات منها الدعم المادي وضمان الدولة للقروض الخارجية والحماية من اتحادات العمال، وبالمقابل على الشركات بناء الصناعات المحلية وتنميتها والدخول في قطاعات اقتصادية جديدة وتعزيز وارداتها الكورية.
ومن خلال التخطيط الاقتصادي انتقلت كوريا من دولة غير تنموية إلى مصاف الدول المتقدمة وأصبحت عضوا في G20 ومن أهم صادراتها التنافسية إلى العالم: الرقائق الالكترونية – الآلات والسيارات – البلاستيك والحديد – السفن المتقدمة.
لا شك أن التصنيع البديل للواردات الذي اتبعته كوريا في نموذجها التطويري والتنموي لاقتصادها واحد من أهم الاتجاهات للتنوع الاقتصادي، ويعمل على خلق الاستدامة داخل السوق المحلي.
ومن الجدير بالذكر أن تفعيل أداة توطين الواردات في الاقتصاد لا يلغي الحاجة إلى الواردات الأجنبية، ولكن هو محرّك غير مباشر لتنوّع قطاعات الاقتصاد المحلي، لأنه يولّد صناعات وخدمات جديدة، ويبني قدرات محلية متقدمة، ويخلق فرص اقتصادية مستدامة على المدى الطويل.
تعتبر تنمية الواردات المحلية استراتيجية محورية لتعزيز هيكلية الاقتصاد للدول وتحقيق نمو مستدام للناتج المحلي الإجمالي، إذ تُعد من الأدوات الفعّالة لإعادة توجيه الموارد الاقتصادية نحو القطاعات الإنتاجية الوطنية ذات القيمة المضافة العالية.
من منظور الاقتصاد الكلي، فإن تعزيز الإنتاج المحلي للواردات يرفع من مرونة الاقتصاد ويحد من تعرضه للصدمات الخارجية وتقلبات أسعار الصرف العالمية، ويعمل على تحسين ميزان المدفوعات عبر تقليص الاعتماد على الواردات الأجنبية.
على صعيد الاقتصاد الجزئي، يخلق هذا التوجه ديناميكيات تحفيزية للسلاسل الإنتاجية المحلية، ويعزز الكفاءة التنافسية، ويحفز الابتكار التقني، ويولد تأثيرات مضاعفة على سوق العمل من خلال خلق وظائف نوعية ومستدامة. إضافة لذلك، فإن زيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي للواردات يسهم في تعميق التكامل القطاعي، ويعمل كأداة للسياسات الصناعية الاستراتيجية التي ترفع القدرة الإنتاجية الوطنية، وتدعم تطوير سلاسل القيمة المحلية، وتدعم استدامة التنمية الاقتصادية في المدى الطويل.
ونفتخر برؤية مملكتنا وبالتحول الاقتصادي الكبير الذي قمنا به خلال سنوات قليلة من خلال استحداث وتنويع القطاعات الاقتصادية وزيادة نسبة مشاركتها بالناتج المحلي الإجمالي وعدم الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للاقتصاد وقد شهد العالم الاقتصادي هذا التحول الكبير.
فقد ارتفعت الصادرات غير البترولية بنسبة 30.4% في شهر يوليو 2025 مقارنةً بالشهر المماثل من عام 2024. وارتفعت نسبة الصادرات السلعية غير البترولية إلى الواردات ارتفعت إلى 44.6% في يوليو 2025 مقابل 33.4% في يوليو 2024.وسجّل مؤشر الرقم القياسي للإنتاج الصناعي ارتفاعًا بنسبة 6.5% في يوليو 2025 مقارنةً بالشهر المماثل من العام السابق، (حسب الهيئة العامة للإحصاء).
ومن الجميل ملاحظة أن الاحصائيات تُظهر نموًا عامًا في الإنتاج والصادرات غير النفطية، وفي السياق نفسه على الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات، إلا أن الأرقام تشير إلى وجود عدم انسجام بين الإمكانات الإنتاجية الفعلية والطلب الداخلي على السلع الاستراتيجية، حيث لا تزال بعض الصناعات الاستراتيجية تعتمد على مستلزمات مستوردة، وتظل تكاليف الإنتاج المحلية مرتفعة مقارنة بالبدائل الأجنبية.
ولتعزيز فعالية تنمية الواردات المحلية ولتعظيم أثرها الاقتصادي، نقترح الآتي:
رغم توسع برامج توطين الإنتاج، إلا أن تكامل سلاسل القيمة بين المنشآت الصغيرة والمتوسطة والشركات الكبرى لا يزال محدودًا. فغالبًا ما تتركز العقود والفرص في الشركات الكبيرة، بينما لا تُستثمر قدرات المنشآت الأصغر بشكل كافٍ لخلق منظومة إنتاج مترابطة. هذا يضعف من ديناميكية سلاسل الإمداد المحلية ويحد من انتشار القيمة المضافة عبر مختلف مستويات الاقتصاد. تطوير آليات الدمج بين مختلف أحجام المنشآت سيُسهم في خلق منظومة إنتاج أكثر تنوعًا ومرونة.
كما أن تحسين البنية التحتية الصناعية وخفض تكاليف الإنتاج عبر الأتمتة والتحول الصناعي الرقمي، يشكلان عاملين أساسيين لتعزيز الكفاءة الإنتاجية ورفع تنافسية المنتج المحلي. أما تسريع نقل التقنية، فهو بمثابة «رافعة إنتاجية» تمكّن من إعادة هيكلة القاعدة الصناعية الوطنية باتجاه الصناعات المتقدمة ذات القيمة المضافة العالية، بما يخلق بيئة حاضنة للابتكار الصناعي ونقل المعرفة.
وفي هذا الإطار، فإن تعزيز البحث التطبيقي في الصناعات الإستراتيجية يسهم في بناء قاعدة تقنية ومعرفية محلية تقلص الفجوة التكنولوجية، وتدعم توطين سلاسل الإمداد.
ومن جانب آخر، فإن تحفيز الطلب المحلي على السلع الوطنية من خلال برامج تسويقية موجهة وتشجيع الشركات الكبرى على استبدال الواردات بمنتجات محلية عالية الجودة، يعزز الاستدامة التجارية ويحفز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية.
تطبيق هذه السياسات بشكل متكامل من شأنه رفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وخلق وظائف نوعية مستدامة في قطاعات صناعية وخدمية ذات قيمة مضافة عالية، إضافة إلى تعزيز القدرة التنافسية للمملكة في سلاسل القيمة العالمية، وتقليص اعتمادها على الواردات في القطاعات الحيوية.
وفي الختام، إن توطين الواردات الاقتصادي أداة لتغيير عقلية السوق إلى سوق منتج مبتكر وليس فقط أداة حماية اقتصادية من تغيرات السوق العالمي، بل محرّك غير مباشر لتنوّع الاقتصاد، لأنه يولّد صناعات وخدمات جديدة، ويبني قدرات محلية متقدمة، ويخلق فرصا اقتصادية مستدامة على المدى الطويل.
** **
- أريج كعكي