إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
الفن التشكيلي ليس مجرد ألوانٍ تتوزع على لوحة، بل هو مرآةٌ للروح الإنسانية وذاكرةٌ للجمال العابر في تفاصيل الحياة. هو مساحةٌ يتنفس فيها الإنسان حنينه وأحلامه، ويترجم من خلالها ما تعجز اللغة عن قوله. فالفن فعل مقاومة ضد الزوال، ووسيلة لحفظ الذاكرة من التلاشي، حيث تتحول كل ضربة فرشاة إلى نبضة حياةٍ جديدة، وكل لونٍ إلى خيطٍ يصل الماضي بالحاضر، والذات بالعالم.
في هذا الأفق الجمالي، احتضن جاليري مرسمي المعرض التشكيلي «استرجاع الذاكرة» للفنان جعفر طاعون، أحد أبرز الأسماء في المشهد التشكيلي المعاصر.
المعرض الذي جمع عشرات الأعمال الفنية تنوعت في خاماتها وأحجامها وأساليبها، جسّد تجربةً فنيةً وإنسانيةً عميقة تستحضر الذاكرة، وتعيد صياغة العلاقة بين الفنان والإنسان والمكان والحنين.
وعن المعرض قال الأستاذ عدنان الأحمد مدير جاليري مرسمي: «في هذا المعرض يفتح الفنان الرائد جعفر طاعون بوابات الذاكرة على مصراعيها ليعيد ترتيب المشهد الإنساني من شظايا الضوء والحنين ومن رماد الأزمنة التي مرت بين الحرب والمنفى، بين الحلم والوطن.
تتوزع أعمال طاعون بين التجريد والتعبير لكنها تبقى مشدودة إلى محور جوهري واحد هو الإنسان بوصفه مركز الصورة ومصدر السؤال. من خلال ضربات لونية كثيفة ومتراكبة، يستدعي الفنان ظلال الوجوه والرموز ويحوّل الذاكرة إلى فضاء بصري نابض تتقاطع فيه الهشاشة والجمال، الغياب والحضور، النسيان والتذكر.
في استرجاع الذاكرة يصبح اللون شاهداً، والخط اعترافاً، والفراغ مساحة تأمل بين ما كان وما لم يكتمل بعد. إنه معرض يلامس ما تبقى فينا من حنين إلى الأمكنة الأولى ويعيدنا إلى جوهر الفن بوصفه فعلاً مقاوماً ضد الزوال.»
في أعمال طاعون، يتجلى الإنسان كمحورٍ رئيسي للوجود؛ ملامحه تتوارى خلف ظلالٍ من الحنين، وتظهر لتروي حكاياتٍ عن الغياب والوطن والمنفى.
الألوان الكثيفة والمتراكبة تمنح اللوحات عمقًا شعوريًا، يجعل المتلقي يعيش التجربة أكثر مما يشاهدها. فكل لوحة تبدو كأنها مقطعٌ من ذاكرةٍ أوسع، تحاول أن تستعيد ما ضاع دون أن تفقد حسها الجمالي أو صدقها الإنساني.
وفي تقنياته، يراوح الفنان بين التجريد والتعبير الرمزي، ليخلق فضاءً بصريًا مفتوحًا على التأمل، حيث يتحول الفراغ إلى معنى، واللون إلى ذاكرة، والخط إلى صوتٍ داخليٍ يبوح بما لم يُقل.
يخرج الزائر من «استرجاع الذاكرة» محمّلًا بمشاعرٍ متباينة من التأمل والدهشة والحنين. فالأعمال لا تكتفي بإبهار العين، بل تلامس القلب، وتوقظ في الإنسان ذاكرته العاطفية العميقة.
في تلك اللحظة، يدرك المتلقي أن الفن ليس ترفًا بصريًا، بل لغةٌ للنجاة، ووسيلةٌ لاستعادة ما فقدناه من أنفسنا في خضم الحياة.
إنه معرضٌ لا يقدّم الجمال بوصفه شكلاً، بل بوصفه قوةً إنسانيةً تعيدنا إلى جوهرنا الأول، وتذكّرنا أن الفنان، حين يسترجع ذاكرته، إنما يسترجع ذاكرة الإنسانية جمعاء.
** **
إكس: AL_KHAFAJII