د.زيد محمد الرماني
شخص يستيقظ صباحًا فيمد يده فورًا ليلتقط الهاتف الذكي، يطالع شاشته بلهفة ليبحث دون ضرورة عن رسائل إلكترونية أو نصّية جديدة على الرغم من أنه استيقظ لتوّه، يشعر بالارتياح لعدم وجود جديد؛ فيبدأ في التهام (تايم لاين) الفيسبوك ليُشبع فضوله ويستعرض ما نشره أصدقاؤه وما استجدّ في عالمه الصغير في أثناء النوم! يسارع إلى تويتر، بالطبع سيكون أحد المئات أو الآلاف الذين يتابعهم من معارف ومشاهير قد نشر شيئًا شائقًا.. لا يجد للأسف. يُهرَع إلى منصات الأخبار التي يتابعها تحت تأثير الإحباط من افتقاد الجديد على وسائل التواصل الاجتماعي، يبحث بشغف عن العناوين الرئيسة ليعرف ما جرى في العالم الكبير في أثناء ساعات الليل.
هل تبدو لك تلك القصة مألوفة؟
على ذلك المنوال يجري يومه منذ لحظة استيقاظه وحتى أول رشفات من قهوته الصباحية، تُطبِق القبضة الحديدية لوسائل التكنولوجيا على عنقه؛ فتُغرقه بين الرسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي ومنصات الأخبار ومواقع الألعاب وفيديوهات اليوتيوب.. إلخ. الأسوأ من ذلك أن بقية يومه لا يختلف كثيرًا؛ فلن يمكنه مقاومة أزيز هاتفه معلنًا وصول رسالةٍ أو إشعارٍ، بل سيترك ما يفعله فورًا ليُلبِّي نداء الهاتف. بعد هنيهةٍ سيُقنع نفسه أنه بحاجة إلى مطالعة حسابه على الفيسبوك دقائق معدودة، فينسى نفسه ساعةً كاملة ويغرق في (التايم لاين) بلا هدف! إن كان ما سبق يُمثَّلنا فلديّ أخبار سيئة للأسف.. نحن على ما يبدو مدمنون لوسائل التكنولوجيا. ولكن لا نيأس، فالأخبار الجيدة أن التغلب على هذا الإدمان واستعادة وتيرة حياتنا الطبيعية ممكن جدًّا.
إن جميع أشكال الإدمان تشترك في نموذج ديناميكي (حركي) رئيس. هذا النموذج هو التوقُّع المسبق للعقل بأن الانخراط في نشاط معين سوف يؤدي إلى مكافأةٍ أو بتعبيرٍ أقرب إلى متعة. وفي الغالب لا تكون تلك المكافأة (المتعة) قيمة إيجابية واضحة أمام عيني المدمن، بل إنها تتمثّل أحيانًا في شيء غير متوقِّع؛ لأنه في الأصل يُمثّل خطرًا محتمَلًا على الشخص، ولكنّ العقل يترجمه على رغم ذلك إلى خبرةٍ إيجابية.
وهناك شأنّ آخر مهم مرتبط بإدمان وسائل التكنولوجيا، فقد اكتشف الباحثون أن مدمني وسائل التكنولوجيا أكثر ميلًا إلى تغذية إدمانهم باستمرار؛ نظرًا لسهولة وجود الأدوات التي تُمكّنهم من ذلك في متناولهم وفي كل مكان. وبالطبع تنتشر الهواتف الذاتية وأجهزة اللابتوب والحاسب الشخصي انتشار النار في الهشيم. فلا مهرب هناك من الأجهزة المتسببة في الإدمان التكنولوجي، والنتيجة بالطبع أن الدافع القهري لتصفُّح البريد الإلكتروني وصفحات التواصل الاجتماعي لم يعد من الممكن مقاومته، والرغبة في معرفة عناوين الأخبار أو سماع الرسائل الصوتية التي تُخبِرك إشعارات هاتفك بوصولها صارت عارمة. إن تغلغل الهواتف الذكية في حياتنا قد بلغ أوجَهُ، فكلُّ منا تقريبًا يحمل واحدًا. تكمن المشكلة في أن استخدامه المفرط يُحفز مركز المكافأة في الدماغ بطريقةٍ تُعزِّز اعتماديتنا على وجوده، ومن ثمّ يتحول الأمر بالتدريج إلى إدمانٍ صريح. تلك الهواتف الذكية تتحول إلى أدواتٍ قهرية لا يمكننا تجاهلها عندما تُعلن عن إشعارٍ أو رسالةٍ نصية أو يعلو الرنين باتصالٍ وارد، وبين هذا وذاك لتصفح بعض وسائل التواصل الاجتماعي بقلقٍ من أن يكون أي جديد قد فاتنا.
وحسب تقارير الباحثين فإن الوقت الذي نقضيه على شبكة الإنترنت قد تضاعف خلال سنوات قصيرة وبالطبع أخذ هذا الاتجاه في التصاعد حتى اليوم. إذ يضيع معظم هذا الوقت دون فائدةٍ تُذكّر، فنحن لا نتصل بالإنترنت دومًا لنبحث عن معلوماتٍ متعلقة بأعمالنا ومشروعاتنا العملية، بل نتصفح البريد الإلكتروني، ونشاهد فيديوهات اليوتيوب ونتجول على صفحات التطبيقات الأخرى؛ لنبحث بشغف عن أي جديد. لا تبدو تلك النشاطات ضارة بالطبع، ولكن خطورتها تكمن في السهولة الشديدة لممارستها وتوافر الإنترنت على بعد نقراتٍ من أصابعنا، بما يتيح للدوبامين أن يتدفق في عروقنا وبالتدريج تتحول النشاطات البريئة إلى احتياجٍ قهري فاعتماديةٍ فإدمان. ولا شك في أنّ ممارسة ألعاب الفيديو تُشكّل أحد أشكال الهوس الرئيس لدى الصغار عبر العشرين عامًا الماضية. وخلال العقدين الأخيرين فقد انتشرت أجهزة الهاتف الذكي والتابلت والأجهزة المحمولة كوسائل الإدمان التي يمكن أن تُخفيها في جيبك.
يقول ديمون زهاريادس في كتابه (استرد حياتك من الإنترنت): الاحتياج القهري إلى ممارسة ألعاب الفيديو يمكن أن يستحوذ على الإنسان ويستنزفه بالكامل، لدرجة أن بعض مدمني ألعاب الفيديو يرتدون حفاضات كبار السن حتى لا يضطرون إلى قطع استغراقهم في اللعب والذهاب إلى الحمام! من حسن حظي أني لم أبلغ تلك الدرجة قطّ، ولكن هذا الجنون يُنبئنا إلى أي مدى قد تبلغ خطورة هذا الشكل من الإدمان.
ومن أكثر وسائل إدمان التكنولوجيا شعبية وفي ذات الوقت أشدّها خداعًا ومراوغةً وسائل التواصل الاجتماعي. فبذات الكيفية التي جاء بها تركيب المخدرات كالهيروين، صُممت تطبيقات التواصل الاجتماعي لتجعلك لا تستطيع مقاومة الحاجة إلى تصفحها باستمرار. فمن منا لا يستيقظ قلقًا ليبحث عن هاتفه ويطالع الجديد.
عند تناول طعامك وحتى في أثناء العمل، ألا تفتح هاتفك لتتفقد الإنستجرام أو تويتر وأنت تتلفت بحذر لتتأكد أن مديرك لا يلاحظ؟ أنت مدمن إذا كنت تفعل هذا، ولست وحدك بل هناك عشرات أو مئات الملايين يفعلون المثل في ذات الوقت، ولكن السيئ أنّ أضرار إدمان وسائل التواصل الاجتماعي لها بالتأكيد آثار جانبية حقيقية على صحتك.
فالعلماء قد اكتشفوا أن التعرض المستمر لصفحات التواصل؛ يؤدي إلى تغيرات كيميائية في الدماغ، ويؤثر على معالجة المشاعر الصادرة عنه، ويُسبب إجهادًا مستمَّرا، وتدهورًا في تقدير الذات، وتراجعًا في الشعور بسعادة حقيقية، وأخيرًا في الحالات الحادة قد يسقطك في دوامة الاكتئاب. ناهيك بالطبع عن الآثار المدمرة التي تطول علاقاتك الشخصية وإنتاجيتك بصفتك فردًا عاملًا في المجتمع.
ثم إن الشغف بمعرفة الأخبار كذلك يمكن أن يتحول إلى إدمان، فالجميع يحب أن يعرف كل الأحداث من حوله أولاً بأول، وتساعد الوتيرة السريعة لتناقل الأخبار في ذلك. لم نعد مثل الماضي بحاجة إلى انتظار طبعة الصباح من الصحف، أو النشرة الإخبارية على رأس الساعة لنعرف ما استجد في العالم، بل يمكننا في ثوانٍ عبر الإنترنت معرفة كل الأحداث لحظة بلحظة، وهو ما يُمثل حالة السعادة القصوى لمدمن الأخبار!
وما يزيد ذلك الوابل من الأخبار المتلاحقة سوءًا محاولات المنصات الإخبارية لجذب انتباهك، فكلما ازدادت مرات زيارة المواقع وفتح الروابط، جذبت تلك المواقع مزيدًا من الإعلانات، ومن ثمّ مزيدًا من العائدات المادية. فتجد العناوين الرئيسة البارزة دائمًا تحفل بالفواجع وبصياغات حافلة بالإثارة وادعاء الأهمية لتشعل فضولك. وفي هذا الصدد يقول علماء النفس إننا مبرمجون على أن عقولنا تتغذى أكثر على المثيرات السلبية، وتلك البرمجة تثير فينا الخوف والقلق؛ فنندفع بشغف أشدّ إلى البحث عن الأخبار والسقوط في النهاية في بئر الإدمان، تلك الاستجابات الإدراكية لدينا تُدركها إدارات المنصات الإخبارية جيدًا، وتسعى لاستغلاها من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وأخيرا فإن المدونات والمنتديات هي من أخطر أنواع الإدمان، فهي وسائل واسعة الاستخدام لصرف الانتباه عما سواها، ومع تحقيقها لأهدافها من تشتيت وقتل للتركيز، تقضي بفاعلية على قدراتنا الإنتاجية.