د. طارق بن محمد بن حزام
كنتُ أمشي في دهاليز الأيام مثقلةً بصوتٍ داخلي لا يهدأ، تتنازعني الأسئلة، ويتساقط المعنى من الأشياء من حولي. كنت أبتسم للعالم فيما قلبي يذبل ببطء، وأتظاهر بالثبات بينما الريح في داخلي تعصف بي كل حين، حتى جاء صباحٌ مختلف لم يكن فيه شيء جديد سوى أنني أمسكت بالمصحف، كمن يتشبّث بخشبة نجاةٍ بعد غرقٍ طويل. فتحت الصفحات دون نيةٍ مسبقة، ووقعت عيني على قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، كأنّها كُتبت لي وحدي. توقّفت عندها طويلاً أحسست أنّ الآية تخاطبني، وتربّت على قلبي الذي أنهكه التيه، وتقول له بلطفٍ ربّاني: لم أتركك يومًا، أنتَ من ابتعد. قرأت بعدها آياتٍ أخرى، فكانت كلُّ كلمةٍ جسرًا يربطني من جديد بخالقي.
شعرتُ بحرارةٍ تسري في صدري، كأنّ شيئًا في داخلي يعود إلى الحياة. لم تكن مجرد تلاوة، كانت لقاءً حقيقيًا بين، روحٍ، أرهقها الظمأ والتعب وكلامٍ لا يُشبه كلام البشر. هناك، بين سكون الفجر وهمس الآيات، أدركت أن الشفاء لا يأتي من الخارج، بل من لحظةٍ صادقةٍ بينك وبين الله، حين تقرأ آياته فينقلب داخلك من العتمة إلى النور. منذ ذلك اليوم، ما عدتُ أقرأ القرآن بعين الباحث، عن الأجر فقط، بل بعين المشتاق إلى الدفء والشفاء. كل آيةٍ أصبحت رسالةً من الله، وكل ختمةٍ حياةً جديدة. لقد علّمني القرآن أن الكلام الذي ينزل من السماء، وحده، يستطيع أن يبرئ القلوب التي، أثقلتها الأرض.
وختاماً كلّما شعرت أن الحياة تثقل صدرك، وأن العالم يضيق بك، عُد إلى كتاب الله. ليس لتبحث عن تفسيرٍ أو حكم، بل لتسمع الآيات بصوتٍ، لا يُسمع، بالأذن، بل، يُسمع بالقلب. فهناك، ما بين الحروف والكلمات، حياةٌ جديدة تنتظرك وطمأنينةٌ لا يمنحها سوى من يعلم ضعفك وحاجتك (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).