عزنا بطبعنا.. عزنا بكرمنا، عز يبدأ من فنجان صغير، لكنه يمتد ليصنع هوية وطن، القهوة ليست مجرد مشروب، بل سيرة وطنية رافقت الملوك والأجيال، كانت القهوة عند الملك عبدالعزيز -رحمه الله- رمزاً يختصر ذائقته وكرمه، وقد رافقت القهوة الملك عبدالعزيز في جميع مراحل مسيرته لتوحيد الوطن، وكان يفضّل -متى ما سمحت له الفرصة- أن يصنعها بنفسه، فبعد دخوله الرياض ونزوله في قصر ابن عجلان، وصل إلى القهوة الخاصة بابن عجلان، وكان الملك عبدالعزيز ورجاله قد أنهكهم التعب، وأدركهم النعاس، عندها قام الملك عبدالعزيز وأشعل النار، وشرع في إعداد القهوة لرجاله، بالرغم من الوقت الطويل والجهد الكثير الذي تتطلبه القهوة لإعدادها، وبعد شربهم عاد النشاط إليهم، فقد كانت وقوداً لمسيرة التوحيد.
وفي موقف آخر يبرز تواضع الملك عبدالعزيز ووفاءه لذكريات البدايات، يُروى أنه في شعبان هيت، أعد أبو سحيم قهوته المعتادة في الضحى، ثم لمح غبار السيارات قادماً من جهة الخرج، فعرف أن الملك عبدالعزيز ورجاله في طريقهم، فأسرع يحمل دلته مستبشراً بقدومهم، فلما رآه الملك ناداه قائلاً: صب، تناول الفنجان الأول، ثم الثاني، ثم قال: صب لربع، وشربوا رجاله، عندها التفت الملك عبدالعزيز إلى من حوله وقال: وش تقولون يا جماعة؟ قهوة هالشايب ذكرتنا قهاوينا الأوله الي فيها طعم الطفو، طعم الرماد، فقد كانت تلك النكهة البسيطة تعيده بذاكرته إلى أيام التوحيد، حين كانت القهوة تُعدّ على الحطب في بيوت الشعر ومجالس السفر، ولم يترك الملك عبدالعزيز الموقف يمر دون مكافأة، فمنح أبو سحيم عطية تقديراً لكرمه.
وقد اعتاد الملك عبدالعزيز أن يشرب القهوة كل يوم بعد صلاة الفجر في قهوة الشيخ سعد بن عتيق، وهو قاضي الرياض في ذلك الوقت، وفي أحد الأيام تقدم رجل إلى الملك عبدالعزيز يطالبه بدين كان في ذمة والده، وحين سأله الملك إذا كان له شهود يثبتون دعواه، أجاب الرجل بأنه لا يملك سوى شهادة الله عز وجل، فأدرك الملك صدق الرجل واصطحبه للقاضي، وترك حراسة جانباً، حين وصلوا، سأله الشيخ: أضيفاً جئت أو خصماً، فأجابه الملك: بل خصماً، عندها أمر القاضي أن يجلس الملك وخصمه على الأرض متساوين أمام الحكم، بينما جلس الشيخ سعد على عتبة الباب، وقضى بينهما بالعدل، وخرج الرجل راضياً بحكمه، ثم التفت الشيخ إلى الملك قائلاً: الآن أنت ضيفي، وجلسا معاً يتشاركان فنجان القهوة، ومع المكانة التي حظيت بها القهوة في حياة الملك عبدالعزيز، فقد كان له ذوق خاص يميزها؛ إذ يفضّل القهوة الشداوية القادمة من جبل شدا في منطقة الباحة، حتى غدت جزءا من سيرته.
ولم يقف حضور القهوة عند عهد الملك عبدالعزيز وحده، بل امتد مع أبنائه الملوك من بعده كلٌ بطريقته الخاصة التي عكست مكانتها في مجالسهم وحياتهم اليومية، ففي عهد الملك سعود -رحمه الله- عُرف عنه أنه خصّص دكة في الرياض يجلس فيها لشرب القهوة بين الناس، بل وكان يزورهم في قهاويهم، أما الملك فيصل -رحمه الله- ارتبطت القهوة بعاداته حتى أنه لا يفطر إلا بوجود القهوة، فهي أول ما يفتتح بها يومه، وظلت القهوة حاضرة مجالس الملوك من بعدهم تحافظ على رمزيتها.
ويكتمل هذا الحضور العريق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- حيث أصبحت القهوة أيقونة ثقافية ودبلوماسية تُعرّف بالهوية السعودية، وجاء ذلك واضحاً في عام 2022م، حين وجّهت وزارة التجارة جميع المنشآت في المملكة العربية السعودية، باعتماد اسم القهوة السعودية، بدلاً من القهوة العربية، وأعلنت وزارة الثقافة أن عام 2022م، عاماً للقهوة السعودية، في احتفاء يليق بمكانتها، وفي هذا السياق نجحت المملكة العربية السعودية في تسجيل البن الخولاني السعودي -وما يرتبط بزراعته من مهارات ومعارف- ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي في اليونسكو، ليُعترف به عالمياً بوصفه إرثاً تاريخياً.
وهكذا بدأت رحلة فنجان التوحيد الذي صنعه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ورافق به فرسانه، في مسيرة البناء، وتزينت به مجالس الملوك، حتى وصل إلى العالمية، وأصبح ورمزاً للكرم، وتجسد به شعار اليوم الوطني الخامس والتسعين، عزنا بطبعنا.. عزنا بكرمنا.
المراجع:
* دارة الملك عبدالعزيز.
* يوسف الشارخ، باحث في تاريخ القهوة والمقاهي.
** **
شهد بنت محمد آل ردعان - طالبة ماجستير تاريخ حديث ومعاصر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية