سارة الشهري
أحياناً أنظر إلى أطفالي وهم يذاكرون، فأرى في عيونهم شروداً غريباً. دقائق معدودة تمر، ثم تمتد الأيدي نحو الهاتف، أو ينساب الحديث إلى موضوع آخر لا علاقة له بالدرس. أبتسم بمرارة لأنني أنا نفسي لم أعد أفضل حالاً. أفتح كتاباً أو مقالة، وبعد سطور قليلة أجدني أتحسس هاتفي. ما الذي جرى لنا؟
يبدو أن عقولنا أصيبت بما يسميه البعض (تعفُّن الدماغ) وهو ليس مرضاً طبياً بالمعنى الحرفي، بل توصيف دقيق لحالة عقلية اجتاحتنا بصمت، تآكل قدرتنا على التركيز، وتراجع صبرنا الذهني، واستهلاكنا المستمر للمثيرات السريعة حتى أصبح التفكير العميق عبئاً لا رغبة.
لقد غيَّرت الهواتف الذكية ومنصات المقاطع القصيرة طبيعة دماغنا. صارت عقولنا تلهث وراء دفعات الدوبامين التي يفرزها كل إشعار أو فيديو عابر. وكلما زادت هذه الدفعات، ازداد الدماغ كسلاً، غير قادر على تحمُّل المهام البطيئة، ولا راغباً في القراءة الطويلة أو الدراسة المركَّزة.
ما يحدث اليوم أننا نعيش في عصر التشويش الذهني. الطفل في الصف لا يستطيع التركيز لأكثر من دقائق معدودة، والمعلم يجهد ليعيد إليه انتباهه، بينما الآباء والأمهات يستسلمون للأمر الواقع ويقولون: (كل الأطفال هكذا) لكن الحقيقة أن هذه ليست طبيعة الأطفال، بل نتاج بيئة تصنع التشتت وتسوِّق له.
أخطر ما في الأمر أننا لم نعد نرى (التشتت) مشكلة. أصبح طبيعياً أن نتابع فيلماً ونحن نتفقد الهاتف، وأن نقرأ كتاباً وبين أيدينا تطبيقان مفتوحان. حتى لحظاتنا الخاصة لم تسلم من التقطيع.
العقل الذي كان يتأمل أصبح يقفز من فكرة إلى أخرى كطائر مذعور.
فما الحل؟ هل نرمي الأجهزة ونعود إلى الورق؟
طبعاً لا. التقنية ليست عدواً، لكنها تحتاج إلى (تربية) مثلها مثل أي أداة قوية. العلاج يبدأ من حمية رقمية، لا من مقاطعة شاملة.
أن نحدد أوقاتاً للانفصال الواعي عن الشاشات ساعة في الصباح بلا هاتف، وساعة في المساء بلا ضجيج.
ثم يأتي التأمل والصمت. دقائق قليلة في اليوم دون موسيقى أو إشعارات، فقط أنت وأفكارك. إنها استراحة ضرورية للدماغ، تتيح له إعادة تنظيم نفسه.
وأوصي بشدة بالعودة إلى القراءة العميقة، ولو لخمس عشرة دقيقة يومياً دون انقطاع. في البداية سيكون الأمر صعباً، لأن الدماغ المعتاد على المقاطع القصيرة سيقاوم، لكن مع الوقت سيستعيد قدرته على التركيز والغوص في المعاني.
أما الأطفال، فلا نحتاج أن نمنعهم من الأجهزة بقدر ما نعلِّمهم إدارتها. أن يعرفوا متى يشاهدون ومتى يتوقفون، متى يرفِّهون ومتى يتعلَّمون. الأهم أن نسمح لهم بأن (يملُّوا) نعم، الملل مفيد، فهو لحظة صمت تلد منها الفكرة. الطفل الذي يملّ سيتخيّل، وسيرسم، وسيفكّر. أما الطفل الذي يُغرق وقته بالمقاطع فلن يتعلّم كيف يعيش مع نفسه.
علينا أيضاً أن ننتبه لأنفسنا قبل أبنائنا. كم مرة أمسكت بهاتفك دون سبب؟ كم مرة شعرت بأن ذهنك مشتت حتى في الصلاة أو أثناء الحديث مع من تحب؟ إنها إشارات صغيرة، لكنها تعني الكثير.
(تعفّن الدماغ) ليس قدراً، بل جرس إنذار. عقولنا بحاجة إلى استراحة، إلى صمت، إلى بطء. نحن في زمن يقيس القيمة بالسرعة، بينما التفكير الحقيقي يحتاج إلى وقت. إذا فقدنا قدرتنا على الصبر الذهني، فلن نكسب شيئاً سوى الضجيج.
في النهاية، علينا أن نعيد اكتشاف جمال البطء، وأن نعلِّم أبناءنا كيف يعيشون بكامل وعيهم في عالم يروِّج للنسيان. فالعقل الذي يُترك دون عناية يتآكل، أما الذي يُدرَّب على الهدوء والتركيز، فيزدهر ويثمر.
فلنحافظ على أدمغتنا قبل أن تذبل في صمت.