د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
سألني بعض أهل الفضل بقول المصريين (فُم غسيل) أفصيح هو أم عامي؟ فأجبت بأنه من العامية المصرية، ولكن الأمر أهمني فذهبت على عجالة أبحث عنها في المعجم الكبير لمحمود تيمور فلم أجد شرحها، فرأيت أن أعطي القوس باريها فسألت أستاذنا الجليل أ.د.محمود أحمد السيد نحلة، أستاذ الدراسات اللغوية والنحوية بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ومدير معهد الدراسات اللغوية والترجمة، وقد تشرفت بمزاملته في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود، فوافاني جزاه الله بجواب رأيته مكتنزًا بالفائدة فرأيت أن أشارك به قرائي الأعزاء، وليس لي من المداخلة سوى الحواشي.
قال أستاذنا أ.د. محمود أحمد نحلة:
«السلام عليكم ورحمه الله وبركاته أخي الفاضل الدكتور إبراهيم
شكرًا لأنك أثرت تطلعي لتفسير قولنا، نحن المصريين، عن الغسلة الواحدة (فم غسيل)، وسوف أعرض عليك بإيجاز ما انتهى إليه سعيي للإجابة عن سؤالك.
• تلك واحدة من غرائب اللهجة المصرية التي أورد كثيرًا منها جمال الدين يوسف بن زكريا المغربي (ت 1019هـ) في كتابه (دفع الإصر عن كلام أهل مصر) (1) محاولًا تأويل ما خُطّئ من كلام أهل مصر ليجد له وجهًا من الصحة، وقد وُفّق في ذلك حينًا، وجانبه التوفيق أحيانًا، ولم يجد لبعضٍ تأويلًا فصرّح بذلك، أو سكت عنه. وعلى الرغم من مرور نحو أربعة قرون على ما أورده لا يزال كثير منه مستعملًا حتى الآن، وفي حاجة إلى دراسات تحقق مسائلة في ضوء التراث اللغوي العربي، والمقارنات باللغات السامية مضافًا إليها القبطية التي كانت لغة أهل مصر حتى الفتح الإسلامي، واللسانيات المعاصرة.
• استعملت كلمة (فَم) في العربية الفصحى بتخفيف الميم وتشديدها، وفتح الميم وضمها جاء في معجم (لسان العرب): «التَّهْذِيبُ: الْفَرَّاءُ: قبَّلها فِي فُمِّها وثُمِّها. الْفَرَّاءُ: يُقَالُ هَذَا فَمٌ، مَفْتُوحُ الْفَاءِ مُخَفَّفُ الْمِيمِ، وَكَذَلِكَ فِي النَّصْبِ وَالْخَفْضِ رأَيتُ فَمًا ومررتُ بفَمٍ، وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ: هَذَا فُمٌ وَمَرَرْتُ بفُمٍ ورأَيت فُمًا، فَيَضُمُّ الْفَاءَ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي كُلِّ حَالٍ؛ وَأَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ ذُؤَيْبٍ العُماني الفُقَيْميّ:
يَا لَيْتَها قَدْ خَرَجَتْ مِن فُمِّهِ
حتَّى يَعُودَ الـمُلْكُ فِي أُسْطُمِّه ِ(2)
قَالَ: وَلَوْ قَالَ مِنْ فَمِّه، بِفَتْحِ الْفَاءِ، لِجَازَ... قَالَ اللَّيْثُ: أَمَّا فُو وَفَا وَفِي فَإِنَّ أَصل بِنَائِهَا الفَوْه، حُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ آخِرِهَا وَحُمِلَتِ الْوَاوُ عَلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَاجْتَرَّتِ الْوَاوُ صُرُوفَ النَّحْوِ إِلَى نَفْسِهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مَدَّةٌ تَتْبَعُ الْفَاءَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحْسِنُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي الإِضافة، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تُضَف فَإِنَّ الْمِيمَ تُجْعَلُ عِمَادًا لِلْفَاء ِ(3).
قال «الْجَوْهَرِيُّ: الْفَمُ أَصله فَوْه نَقَصَتْ مِنْهُ الْهَاءُ فَلَمْ تَحْتَمِلِ الْوَاوُ الإِعراب لِسُكُونِهَا فَعَوَّضَ مِنْهَا الْمِيمَ، فَإِذَا صَغَّرتَ أَوْ جَمَعْتَ رَدَدْتَهُ إِلَى أَصله وَقُلْتَ: فُوَيْه وأَفْواه، وَلَا تَقُلْ: أَفْماءٌ، فَإِذَا نَسَبْتَ إِلَيْهِ قُلْتَ فَمِيٌّ، وَإِنْ شِئْتَ فَمَوِيٌّ، يُجْمَعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَبَيْنَ الْحَرْفِ الَّذِي عُوِّضَ مِنْهُ، كَمَا قَالُوا فِي التَّثْنِيَةِ: فَمَوانِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَجازوا ذَلِكَ لأَن هُنَاكَ حَرْفًا آخَرَ محذوفًا وهو الْهَاءُ، كأَنهم جَعَلُوا الْمِيمَ فِي هَذِهِ الْحَالِ عِوَضًا عَنْهَا لَا عَنِ الْوَاو»(4).
وأوضح أنهما ومن نحا نحوهما من العلماء العرب يجعلون أصل الكلمة، أو جذرها، إن شئت، ثلاثيًّا (ف/و/هـ) أما الهاء فحذفت، وأما الواو فصارت عند الليث حركة تابعة للفاء، فإذا لم تضف جعلت الميم عمادًا للفاء. أما عند الجوهري فالهاء حذفت فلم تحتمل الواو الساكنة الإعراب فعُوِّض منها الميم. وقد كان هذا منهما اجتهادًا عقليًّا لا يقوم على أساس تاريخيّ أو لغويّ ولهذا اختلف التفسيران، وجاء الزمخشري بثالث هو أن تكون الميم بدلًا من الواو، وما كان ذلك منهم إلا حرصًا على اطّراد الأصل الثلاثي.
• أما علماء الساميّات ومن أهمهم برجشتراسر فقد رأوا أن الميم في كلمة (فم) تمييم(5) صار في العربية تنوينًا؛ فكان الرفع fum، والخفض fim، والنصب fam(6)، لكن الميم فيها لم تصر نونًا كسائر الميمات الانتهائية؛ بل بقيت على حالها ميمًا؛ لأن أهل العربية تلقوها كأنها أصلية؛ فأضافوا إليها الإعراب والتنوين، فصارت (فمٌ، فمًا، فمٍ)، ولما نقلت الميم من آخر الكلمة إلى وسطها لم يجر عليها قانون التمييم الذي كان مستعملًا أيضًا في الأكدية والسبئية في نحو: بيتُم بيتَم بيتِم، وبناء على ذلك قالوا بالأصل الثنائي في نحو أب، أخ وأخت، ابن بنت، يد، دم، فم.
وقد ذكر برجشتراسر أن الفاء في (فم) كان أصلها الباء المهموسة p بدليل وجودها في عدد من اللغات السامية الأخرى كالأكدية p والعبرية p والأرامية pum(7). ولعل آثار الأكادية بقيت في كلمة (ب ـــُــ ء)(8) التي تعني في العامية المصرية (فم)، (وهو اجتهاد مني)، وظاهر أيضًا أن الكلمة استعملت مضمومة الأول في الأكدية والعبرية وهو دليل على أن ضم فاء (فُم) أصيل في العربية، وأن تخفيف الميم هو الأصل، والتشديد فرع عنه.
• ضم فاء (فُمّ) وتشديدها في العامية المصرية يجعل الكلمة ثلاثية الأصول على وزن «(فُعْل)، وهي في العامية المصرية لا تقتصر على (فُمّ غسيل) بل تستعمل في سياقات أخرى أيضًا: فُمّ المعدة، وفُمّ السيجارة وفُمّ الخليج، وهو حيّ في القاهرة في مقابل جزيرة الروضة، وتستعمل أيضًا للدلالة على عضو في الوجه يقوم بوظيفة الطعام والكلام في نحو: (يسلم فُمّك)، (بيتكلم بالفُمّ المليان)، أي إن دلالة الفم دلالتان: إحداهما حقيقية مرتبطة أساسًا بالطعام وبالكلام، ودلالة مجازية بمعنى الفتحة أو الفُوّهة كفم المعدة وفم الغسيل وفم السيجارة الذي يسحب به الدخان منها.
• في ضوء ما قدمت فإن (فم غسيل) أصعب مصاحبات الفُم، وأكثرها استعصاء على التفسير؛ إذ لا تبدو العلاقة مفهومة بين الفم والغسيل. أقول في تفسير هذه العلاقة وبالله التوفيق:
• العلاقة بين اللغة القبطية، وهي لغة أهل مصر منذ القرن الثالث الميلادي حتى الفتح الإسلامي لمصر، واللهجة المصرية الحديثة علاقة وثيقة ينبغي التنبه إليها في تفسير كثير من ظواهر العامية المعاصرة، والكلمة التي تعني الفم أو الفتحة أو الفوهة في القبطية وهي مطابقة للجذر السامي p?, pum.
• ويبدو لي أن أصل التعبير المصري الحديث (فُم غسيل) الذي يُراد به المرة الواحدة من الغسيل يرتبط بدلالة قديمة لكلمة فُم في القبطية على المنفذ أو الفتحة التي يصب منها الشيء، وقد عُرفت هذه الدلالة في العربية منذ القديم، كما في قولهم فم النهر، وفم القربة، أي موضع صبّ الماء أو جريانه.
وانطلاقًا من هذا الأصل المكاني، تطوّر المعنى في اللهجة المصرية تطورًا مجازيًّا يعرف في البلاغة العربية بالمجاز المرسل الذي علاقته المسببية؛ إذ أُطلق المسبب (الفم بوصفه مخرج الدفعة المائية الواحدة)، وأريد به المسبّب عنه (المرة الواحدة من الغسيل). ومن ثم قيل (فُم غسيل) أي الغسلة الواحدة. وهذا من سنن العربية في المجاز، إذ يستعمل المسبب ويراد المسبب عنه، كقولهم: (رعت الماشية الغيث)، أي النبات الناتج عن الغيث.
وعلى ذلك فـ(فُم غسيل) في الاستعمال الشعبي المصري نقل دلاليّ مجازيّ يقوم على إدراك العلاقة بين الفتحة الفيزيائية والحدث الناتج عنها، أي بين المنفذ أو الدفعة المائية الواحدة والحدث الناتج عنها وهو الغسلة الواحدة. وهذا التوسع في الدلالة يعبر عن نمط من المجاز في اللسانيات الإدراكية الشديد القرب من المجاز المرسل في العربية هو (Cognitive Metonymy) الذي تنتقل فيه الدلالة من الأداة إلى الفعل أو النتيجة المرتبطة بها، وهو تطور طبيعي في اللهجات العربية التي ورثت عناصر تراثية عربية وقبطية وسامية متداخلة.
هذا وبالله التوفيق.
محمود نحلة».
**__**__**__**__**
(1) ألفه جمال الدِّينِ يُوسُفَ بن زكريا المغربي (ت 1019هـ)، حققه: عبد المحسن محمود جودة، وقدم له وراجعه: أ.د. محمد حسين عبد العزيز، مجمع اللغة العربية/القاهرة، الطبعة الأولى 1435 هـ - 2014م. وحققته ودرسته إلزبيث زاك.
(2) جاء في المخصص لابن سيدة، 2/ 389 «أَبُو عُبَيْدَة أُسْطُمُّ الليلِ وَسَطُه وأُسْطُمُّ كل شَيْء وَسَطُه».
(3) لسان العرب لابن منظور، 12/ 459، وانظر: تهذيب اللغة للأزهري، 15/ 413.
(4) لسان العرب لابن منظور، 12/ 459، وانظر: الصحاح للجوهري، 5/ 2004.
(5) التميم إلحاق الاسم ميمًا كالتنوين، وعرفته العربية زمنًا، وبقيت أسماء ممثلة له غير أن اللغة تجاهلته فأدخلت عليه التنوين أيضًا، ومن هذه الأسماء: ابن وابنمٌ، وفسحمٌ، وزرقمٌ. وانظر: ما نُسي أصُله من ظاهرتي التنوين والتمييم في اللغة العربية: دراسة تاريخية مقارنة، لآمنة صالح الزعبي، دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد (33)، 2006م.
(6) التطور اللغوي للغة العربية لبرجشتراسر، نشرة رمضان عبدالتواب، مكتبة الخانجي/ القاهرة، 1414هـ/ 1994م. ص51.
(7) التطور اللغوي للغة العربية لبرجشتراسر، نشرة رمضان عبدالتواب، ص23.
(8) جاء في معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية (2/ 205) «بُقّ: للفم، وصوابه البَقْبَاق»، وجاء في معجم الجيم لابن مرّار الشيباني (1/ 96) «البَقْباقُ: الف م».