إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
تشكّل الجماعات الفنية إحدى أبرز الركائز التي يقوم عليها المشهد التشكيلي في المملكة العربية السعودية؛ فهي ليست مجرد تجمعات إبداعية، بل فضاءات معرفية تنمو فيها التجارب، وتتلاقى من خلالها الأجيال، وتُصاغ عبرها الرسائل الجمالية والاجتماعية للمجتمع. لطالما لعبت هذه الجماعات دورًا مهمًا في نشر الثقافة البصرية، وتعزيز حضور الفن في الحياة العامة، وخلق بيئات داعمة للفنانين، بما يجعل الفن لغة مشتركة تعبّر عن الإنسان وهمومه وقيمه وتطلعاته. ومن هنا تبرز أهمية استمرار هذه المبادرات التي تحافظ على ذاكرة الفن السعودي وتفتح نوافذ جديدة للوعي والإبداع.
وفي هذا السياق، استضاف جاليري تجريد للفنون في مدينة الرياض معرض الجولة الحادية والثلاثين لجماعة فناني المدينة المنورة، إحدى أقدم الجماعات التشكيلية في المملكة وأكثرها استمرارية منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعة وأربعين عامًا. وقد أكد رئيس الجماعة الدكتور فؤاد مغربل أن هذه الدورة تأتي بالتزامن مع عام الحرف اليدوية في المملكة العربية السعودية، وهو ما جعل الحرفة الموضوع المحوري الذي اجتمع حوله الفنانون المشاركون، في احتفاء يجمع بين إرث الحرف التقليدية وروح الفن التشكيلي المعاصر.
ضمّ المعرض عشرات الأعمال التشكيلية بمشاركة (17) فنانًا وفنانة من مختلف أجيال الحركة التشكيلية في المنطقة وهم:
محمد سيام - رحمه الله، منصور كردي - رحمه الله، د. فؤاد مغربل، د. صالح خطاب، مريم مشيخ، نبيل نجدي، سامي البار، عمار سعيد، أحمد البار، عادل حسينون، د. ولاء الحارثي، سلوى حجر، حسين تمراز، هنادي سنان، عالية الحربي، غادة باسودان، وجدان حلواني.
قدّم هؤلاء الفنانون أعمالًا اتسمت بتنوع المدارس والأساليب، لتتراوح بين الواقعية، التأثيرية، التجريدية، التعبيرية، إضافة إلى الخزف الفني، في مشهد بصري يتنقل بسلاسة بين تقنيات مختلفة ورؤى متعددة، لكنه يلتقي عند جوهر واحد: استلهام الحرفة بوصفها إرثًا ثقافيًا وجماليًا حيًا.
شكلت الأعمال المعروضة بانوراما تشكيلية تتشابك فيها مفردات الحرف اليدوية مع أدوات الفن الحديث. بعض اللوحات حملت تفاصيل الحرف التقليدية بواقعية مُتقنة، بينما ذهب بعضها الآخر نحو تجريدات واسعة تستحضر رموز الحرفة، لا بصورتها المادية المباشرة، بل بروحها وإيحاءاتها. وتظهر في الأعمال ضربات لونية كثيفة، ومساحات تتحرك بين الضوء والظل، وأشكال تستدعي ذاكرة الإنسان وعلاقته بالأشياء التي يصنعها بيده.
في جانب آخر، حضرت الأساليب التعبيرية بقوة من خلال لوحات تنقل المشاعر في خطوط سريعة وتكوينات جريئة، بينما إضافة إلى الأعمال الخزفية والمنحوتات. كل ذلك جعل من المعرض رحلة بصرية متكاملة تعكس التنوع الثري للمدينة المنورة بوصفها حاضنة لمدارس متعددة وأصوات فنية متجددة.
يُبرز هذا المعرض أهمية العمل الفني الجماعي الذي يجمع بين الرواد والشباب ضمن مساحة واحدة؛ فهو يمكّن الجيل الجديد من التعلم من تجارب الروّاد ويعزز ثقتهم بقدرتهم على الإضافة والابتكار، كما يمنح الجمهور فرصة لاكتشاف مدى اتساع الطيف الفني داخل جماعة واحدة. وتشكّل مثل هذه المعارض منصة للارتقاء بالذائقة الفنية في المجتمع، وتعزيز حضور الفنون التشكيلية في المشهد الثقافي السعودي.
ومع استمرار جماعة فناني المدينة المنورة لأكثر من أربعة عقود ونصف، تؤكد هذه الدورة من المعرض أن الفن السعودي مستمر في التطور، وأن الحرف والفنون البصرية تظلّ لغة مشتركة تجمع الأجيال، وتنقل ذاكرة المكان والإنسان إلى المستقبل بروح متجددة وإبداع لا ينضب.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII