الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
لاشك أن الصبر على الأقدار أفضل منحة ربانية، والمسلم يعيش بين عسر ويسر، وكلاهما ابتلاء يختبر الله سبحانه وتعالى بهما عبده، ففي العسر يكون الصبر، واللجوء إليه سبحانه، فيبدل العسر يسرا والصبر الذي دعا إليه القرآن الكريم هو ملكة الثبات والاحتمال التي تُهوّن على صاحبها ما يُلاقيه من الشدائد والآلام في تأييد الحق والدفاع عنه وإزالة الباطل واحتمال أذى الناس وما يُلاقيه من مصاعب كالمرض والحاجة وفقد عزيز.
«الجزيرة» استطعت رؤى المعنيين في العلوم الشرعية والطبية حول الابتلاء والصبر على مصائب الدنيا.
دار الابتلاء
يقول الشيخ الدكتور صلاح بن محمد البدير:الدنيا دار ابتلاء، لايجزع فيها العبد المؤمن، ولا يقنط من فرج ربّه ورحمته، والدنيا دار نكدٍ وكدر، فجائعها تملأ الوجود، وأحزانها كلما تمضي تعود، وكل يَوْم نرى راحلًا مشيعًا، وشملًا مصدَّعًا، وقريبًا مودَّعًا، وحبيبًا مفجَّعًا، فمن رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار، فقد رام محالًا.
وأضاف د.صلاح البدير أن من آمن بالقضاء والقدر هانت عليه المصائب، فلا يكون شيء في الكون إلا بعلم الله وإرادته، ولا يخرج شيء في العالم إلا عن مشيئته، ولا يصدر أمر إلا عن تدبيره وتقديره، ولله فِي خلقه أقدار ماضية، لا تُردُّ حكامها، ولا تصدّ عن الأغراض سهامها، وليس أحد تصيبه عثرة قدم ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا، وهو في القدر المقدور والقضاء المطور.
وحضّ فضيلته على عدم استعجال حوادث الأيام إذا نزلت، أو الجزع من البلايا إذا أعضلت، أو استطالة زمن البلاء وألا يقنطوا من فرج الله ولا يقطعوا الرجاء من الرحمن الرحيم، فكل بلاء وإن جلّ زائل، وكلّ همّ وإن ثقل حائل، وإن بعد العسر يسرًا، وبعد الهزيمة نصرًا، وبعد الكدر صفوًا، وبعد المطر صحوًا، وعِنْد تناهي الشدَّة تنزل الرحمة، وعند تضايق البلاء يكون الرخَاء، فلا يكونوا ضحايا القلق وجلساء الكآبة، وسجناء التشاؤم وأسارى الهموم، فسموم الهموم تشتّت الأفكار، وتقصر الأعمار.
وأبان فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي أن الكمد على الشيء الفائت والتلهف عليه، وشدة الندامة والاغتمام له، وفرطُ التحسّر وكثرة التأسف والاستسلام للأحزان يقتل النفس، ويذيب القلب، ويهدم البدن، محذرًا من الإفراط في الأحزان وتهييج ما سكن من الآلام والغرق في الغموم والهموم، والإسراف في تذكّر المصائب والأوجاع، داعيًا إلى الاسترجاع بذكر الله والإيمان بقضائه وقدره، إذ جعل الله الاسترجاع ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، ووعد الصابرين المسترجعين بمغفرته ورحمته جزاء اصطبارهم على محنه وتسليمهم لقضائه، مستشهدًا بما روي عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: {إِنَّا لِلهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللَّهُمَّ أجرني فِي مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» أخرجه مسلم.
مذكرًا أن الصبر جنّة المؤمن، وحصن المتوكل، داعيًا إلى لزوم الصبر على حلو القضاء ومره، وعلى غمرات البلاء وصدماته، على نكبات الدهر ومصيباته، ففي الصبر مسلاة للأحزان، فما صفا لامرئ عيش ولا دامت لحيّ لذة، فمن وطّن نفسه على الصبر لم يجد للأذى مسًا، ومن صبر على تجرّع الغُصص واحتمال البلايا وأقدار الله المؤلمة صبّ عليه الأجر صبًّا، فالمؤمن يكون صبره بحسن اليقين الذي يزيد الآمال انفساحًا، والصدور انشراحًا، والنفوس ارتياحًا.
وحثّ إمام وخطيب المسجد النبوي على ملازمة قراءة القرآن لأن فيه مسلاة للقلوب، ومسراة للكروب، وبها تصغر نازلة الخطوبة، كما أن لقاء الأصدقاء الصلحاء النصحاء عافية للبدن، وجلاء للحزن، ومما يِبردُ حرّ المصائبُ، ويخفف مرارتها أن يعلم المبتلى بما أصيب به غيره من الناس مما هو أعظم من مصيبته وبليته، وأن يعلم أن الأنبياء والأولياء لم يخلُ أحدهم مدة عمره عن المحن الابتلاء.
مذكرًا أن الأوجاع والأمراض والمصيبات تكفّر الخطايا والسيئات، كما روى أَبِي سَعِيدٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وصَبٍ، ولَا نَصَبٍ، ولَا سَقَمٍ، ولَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهِمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» أخرجه مسلم.
تهوين المصيبة
وشدد د. صلاح البدير القول:إن من أمسك نفسه ولسانه عن التسخّط والاعتراض لم يؤاخذ على بكاء عينه وحزن قلبه، واختلاج الألم في صدره، وإنما الذم واللوم والإثم على من لطم وناح وتسخط واعترض وجزع، مضيفًا أن تأنيس المبتلى المحزون وتسليته، وتهوين المصيبة عليه، والربط على قلبه، وتعزية نفسه المفجوعة والتخفيف عنها من الأعمال النبيلة، والقربات الجليلة.
أجر وغنيمة
ويشير الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله الزكري قاضي الاستئناف بالرياض إلى أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرّمه، فاستخلفه في الأرض وأرسل الرسل وأنزل الكتب، وجعل حوله ملائكة الرحمة والسكينة تعينه وتثبته وتجعله مطمئنا أثناء معيشته التي تتقلب به بين السراء والضراء والعسر واليسر، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
فصبره واحتسابه ورضاه يجعل الضراء أجراً وغنيمة وفي الحديث المتفق عليه: «عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
عبادة عظيمة
وجدد د.الزكري التذكير بأن الصبر عبادة عظيمة والكل يعلم ذلك، ولكن مراتبه والتوفيق له فضل من الله سبحانه ولذا يلجأ المؤمن دوما إلى أذكاره والدعاء وترويض النفس لينال من الله هذه المرتبة {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل: 127]،
ويمكن الاستعانة بكتب الأذكار والأدعية للاطلاع على أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته حال الابتلاء والمصائب فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة والدعاء.
الجهاز التنفسي
ويكشف الدكتور عادل بن عبدالتواب الشناوي استشاري الأمراض الصدرية بالرياض عن وجود بعض الدراسات التي تشير إلى أن التوتر والقلق يزيدان من حدة بعض الأمراض الصدرية، مثل:الربو أو ضيق التنفس، لأن التوتر ممكن يؤدي إلى زيادة التهابات أو اضطراب في وظائف الجهاز التنفسي، كما أن التوتر والقلق يمكن أن يؤثرا سلباً على الجهاز التنفسي، حيث يؤديان إلى زيادة التهابات الممرات الهوائية، وتضييق الشعب الهوائية ويزيدان من احتمالية نوبات الربو أو ضيق التنفس على الجانب الآخر، والصبر والهدوء يساعدان في تقليل استجابة الجسم للتوتر، مما يساهم في تحسين وظيفة الجهاز التنفسي وتقليل الأعراض، لذا فإن إدارة التوتر بشكل جيد يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الصحة الصدرية، لذلك يؤثر الصبر على مريض الصدر بشكل إيجابي، فالصبر على البلاء يمحو الذنوب ويرفع الدرجات، ويعزز الرضا بقضاء الله والثقة في حكمته، مع ضرورة استمرار الدعاء والتوكل عليه لطلب الشفاء وتجاوز الابتلاء.
التأثير الإيجابي
وأوضح د. عادل الشناوي استشاري الأمراض الصدرية بالرياض التأثير الإيجابي للصبر على مريض الصدر، وذلك من خلال الآتي:
- تخفيف الأثر النفسي: الصبر يعني الرضا بقضاء الله وعدم الجزع، مما يساعد على تحمل الألم النفسي المصاحب للمرض ويقلل من الشعور باليأس.
- رفعة الدرجات ومحو الذنوب: يعتقد في الإسلام أن الابتلاء هو اختبار من الله، والصبر عليه يمحو السيئات ويرفع درجات المؤمن، سواء كان ذلك في الدنيا أو الآخرة.
-تعزيز الإيمان والثقة بالله: عندما يتقبل المريض الابتلاء بصبر، فإنه يؤكد ثقته بأن الله يختاره لما فيه خير ورحمة، وإن كان شاقًا.
- موازنة العلاج الدنيوي بالروحي: يجمع الصبر بين الأمل بالشفاء من خلال الدعاء والتوكل على الله، وبين تقبل ما قدره الله، فلا يتعارض الرضا بالقضاء مع طلب الفرج.
أما كيف يجمع مريض الصدر بين الصبر والدعاء -والحديث للدكتور عادل الشناوي- يكون:
الرضا بالقضاء: أن يتقبل المريض المرض قدرًا من الله دون اعتراض أو تذمر في قلبه.
الدعاء والإلحاح: يستمر في الدعاء والتضرع إلى الله أن يشفيه ويرفع عنه البلاء، لأن الله يحب سماع دعاء عباده.
الأمل بالله: لايفقد المريض الأمل في رحمة الله واستجابته لدعائه، فالله سبحانه وعد بالاستجابة لمن يدعوه بإخلاص.